83 عامًا مضت على اكتشاف بئر الخير
ثلاث عقبات تكشف عن عزيمة موظفي أرامكو السعودية الأوائل في الطريق نحو الازدهار
في 4 مارس 1938م، بدأ الإنتاج في بئر الدمام-7، المعروفة باسم بئر الخير، لتنطلق بعد ذلك المملكة في رحلتها لتصبح أكبر دولة على صعيد إنتاج النفط في العالم، وفقًا لما تخبرنا به الرواية التاريخية المقبولة لدى الجميع؛ لكن الخوض في تفاصيل تلك الرواية يكشف لنا أمرًا مهمًا، وهو أن العامين التاليين لاكتشاف تلك البئر كانا غاية في الصعوبة، حيث تضمَّنا ثلاثة أحداث رئيسة كان على الموظفين الأوائل التغلُّب عليها خلال تلك الأيام العصيبة.
البئر الثانية.. الحفر إلى عمق لا يُصدَّق
بحلول شهر أكتوبر من عام 1938م، كان حقل الدمام قد اعتُمد وأُعلن رسميًا للعالم، وهو ما بشَّر بأن الأمور كانت تمضي على خير ما يُرام. لكن بالنسبة لشركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا (سوكال)، الشركة التي وقعت اتفاقية الامتياز للتنقيب عن النفط وأصبحت فيما بعد أحد أربعة مالكين لأرامكو، فإن وجود حقل نفط واحد لم يكن كافيًا على الإطلاق.
وبالعودة إلى ثلاثينيات القرن الميلادي الماضي، كانت الدمام والخبر قريتين صغيرتين، ولم يكن فيهما ما يشبه البنية التحتية الشائعة في القرن العشرين من قريب أو من بعيد. لذلك، كان على شركة (سوكال) أن تتدبر بنفسها مهمة إحضار أو إنشاء أي شيء تريده. وبما أن حقل واحدًا للنفط لم يكن ليرضي المساهمين، ونتيجة الحاجة إلى تغطية النفقات الباهظة، كان من الضروري بالنسبة لـ (سوكال) أن تجد حقلًا ثانيًا.
وبعد أن تذوَّقت الشركة طعم النجاح في حقل قبة الدمام، اختارت منطقة أبو حدرية، التي تبعد 160 كيلومترًا إلى الشمال الغربي من الظهران، لتبدأ أعمال الحفر هناك مطلع عام 1939م.
وكان من بين الجيولوجيين الشباب في الفريق، الجيولوجي توماس بارغر، الذي أصبح رئيس أرامكو، كبير إدارييها التنفيذيين، في ستينيات القرن الماضي. وكان بارغر يتميَّز بتعدُّد مواهبه، فقد كانت مهارته في استخدام البنادق محل إعجاب من حوله بما فيهم الصيادين المحليين الماهرين، كما كانت قدرته على تعلم العربية محط إعجاب الملك عبدالعزيز رحمه الله.
وكان بارغر قد تزوج سرًا قبل أن يغادر الولايات المتحدة الأمريكية بفترة وجيزة. وعلى غرار حديثي الزواج، أراد أن يشارك زوجته تفاصيل حياته على الرغم من المسافة التي تفصل بينهما بـأكثر من 11 ألف كيلومتر. وكانت رسائله إلى بلاده، التي احتفظ بها ابنه ونشرها فيما بعد، كنزًا مذهلًا يروي تفاصيل ما كانت عليه حياة مستكشفي النفط القدامى.
ضمن إحدى تلك الرسائل، بتاريخ 26 فبراير 1939م، يذكر بارغر أنه إذا كانت بئر (أبو حدرية) بئرًا جافة، فسيكون لذلك تأثير سلبي كبير، حيث سيحدُّ من فرص العثور على النفط في أماكن أخرى إلى حد كبير.
بدأ فريق الحفر بالعمل، وعندما وصلت أعمال الحفر إلى العمق نفسه، الذي انتهى إليه الحفر في بئر الدمام-7، طاولت الآمال السحاب، ثمَّ لم تلبث أن تبخَّرت. لكن مقولة ماكس ستاينكي عندما يأست الشركة من الحفر في بئر الدمام كانت لا تزال عالقة في الأذهان: "احفروا إلى عمق أكبر". وهكذا استمرَّ الحفر، الذي لم يتوقف حتى مع اندلاع الحرب في أوروبا في شهر سبتمبر من العام نفسه.
وفي مطلع عام 1940م، وصل مثقاب الحفر إلى عمق ثلاثة كيلومترات، أي أعمق بمرتين من بئر الدمام-7، وكان ذلك عمقًا لا يُصدق آنذاك، حيث لم يسمع به أحد قبل ذلك في أي قطر من أقطار العالم.
محاولةٌ أخيرة تُفضي إلى النجاح
ويتذكر بارغر الجدل الكبير الذي دار بين كبار الموظفين، حيث كان أحد الطرفين يميل إلى تعميق البئر أكثر، بينما كان الطرف الآخر لا يرى فائدة لذلك، حيث إن البئر وصلت إلى عمق 10 آلاف قدم.
وجاء القرار الفاصل من مجلس إدارة شركة (سوكال)، الذي أرسل أمرًا مختصرًا إلى الظهران يقضي بإغلاق البئر. قبل الحفارون الأمر على مضض، ثمَّ حانت منهم التفاتة إلى مجموعة أنابيب الحفر الأخيرة الجاهزة للاستخدام؛ كان هناك ستة أنابيب طول كل واحد منها 90 قدمًا. تبادل الحفارون نظرات كانت ذات مغزى، ومن دون حاجة إلى الكلام، اتخذوا قرارهم، فأضاع أحدهم البرقية دون أن يرتاب لذلك أحد، ودون أن يتم التعرُّف عليه حتى اليوم، وواصل الجميع الحفر!
وقبل الانتهاء من استخدام تلك الأنابيب الأخيرة، اكتُشف النفط أخيرًا. ويُشير بارغر إلى الأهمية العظيمة لذلك الاكتشاف في رسالته الشهيرة بتاريخ 3 مارس 1940م، حيث جاء فيها: "النفط في أبو حدرية يعني لنا الكثير. ستبدأ الشركة الآن في تركيب جهاز حفر آخر في مكان يُسمى بقيق. هذه الشركة ستصبح شركة نفط عظيمة"؛ وكم كان بارغر محقًا في ذلك!
ظهيرة صيف لم يُعرف مثلها
في 8 يوليو 1939م، وبعد شهرين تمامًا من مغادرة أول ناقلة للنفط الخام السعودي من رأس تنورة، حيث كانت عينا الملك عبدالعزيز رحمه الله تراقبان المشهد عن كثب، كانت الروح المعنوية في أوجها لدى أفراد الحي السكني في الظهران.
عمل السعوديون والأمريكيون جنبًا إلى جنب، وهم يعلمون أنهم على الأرجح مقبلون على تطوير أكثر مواقع استكشاف النفط حيوية على وجه الأرض. وكان الحي السكني قد أُنشئ قبل ذلك بستة أعوام، وبلغ به حسن التنظيم أن اجتذب عددًا كبيرًا من أُسر الموظفين الأمريكيين للسُكنى فيه على مدى عامين قبل ذلك التاريخ. إلى جانب ذلك، جرى توظيف مئات السعوديين، وانتعش الاقتصاد المحلي نتيجة النمو الهائل في النشاط؛ وباختصار كان كل شيء يبدو مشرقًا.
وفي ظهيرة أحد أيام الصيف، تشهد البئر-12 انفجارًا لم يعلم أحد أسبابه تمامًا، في حادثة مأساوية أدَّت إلى وفاة أربعة رجال على الفور، في حين جُرح رجلان آخران جروحًا مميتة.
كان الفريق يُعِدُّ جهاز الثقب الاختباري عندما حدث انفجار كبير دوَّى صوته في كافة أرجاء الحي السكني. وما هي إلا لحظات حتى تطاولت ألسنة النيران إلى ارتفاع 200 قدم في الهواء. كان النفط الذي يخضع لضغط كبير على بُعد ميل في الأسفل، يغذي الحريق بمعدل ثمانية آلاف برميل يوميًا. وفي غضون ساعة واحدة، انصهر بُرج الحفر هاويًا في جحيم النيران.
وسريعًا ما أدرك المدير المقيم بالوكالة أن الحريق قد يتسبب في انخفاض الضغط في كافة نواحي حقل النفط، وتوجيه الماء إلى المنطقة النفطية، مما قد يشكِّل كارثة مالية. وكان الاحتمال الأسوء هو أن تقذف البئر بالنفط المحترق نتيجة الضغط، ليدمر الحي السكني برمته. وفي مواجهة هذا الخطر الداهم، لم يكن هناك رجال إطفاء خُبراء يُلجَأ إليهم.
فريق العمل يهبُّ للنجدة
طلبت الشركة دروعًا وبدلات حماية مصنَّعة من مادة الأسبستوس من الشركة الشقيقة في البحرين، وتم تنظيم فريقين للإطفاء اقتحما بشجاعة لا تُوصف قلب الحريق، فيما كانت خراطيم الماء ترش من فوقهم.
وعلى مدى سبعة أيام أعقبت الانفجار، ارتجل الفريقان سلسلة محاولات لمعالجة الوضع، كانت تُسهم كل مرة في تحجيم ألسنة النيران لبعض الوقت. وفي أثناء ذلك، أعلن رجل الإطفاء المعروف عالميًا، مايرون كينلي من ولاية تكساس الأمريكية، أنه يستعد للطيران فوق المحيط الأطلسي، في خطوة كانت تنطوي على شيء من المخاطرة آنذاك، وذلك بهدف المساعدة في إخماد الحريق المستعر في الظهران.
وفي الوقت الذي كان فيه رجال النجدة الخبراء يُعدون أنفسهم لتقديم العون، كان فريق العمل الأقل خبرة يجرِّبون حيلتهم الأخيرة في الميدان عبر ربط وصلة على خط التحويل الفرعي، في محاولة لإدخال الطين إلى البئر ومنع تدفق النفط. كانت الأعين القلقة تراقب المثقاب وهو يشق طريقه عبر الأنبوب، وسُرعان ما اختفى الحريق!
البرقية التي أُرسلت إلى مركز الشركة الرئيس في كاليفورنيا كانت في غاية الوضوح والاختصار: "أُخمد الحريق. حفرة البئر ممتلئة طينًا، ولا حاجة إلى رجال إطفاء محترفين".
انقضت أيام الجحيم العشرة، وأدَّت الشجاعة التي تفوق التصور، والإبداع الإستثنائي إلى إنقاذ حقل النفط. عمَّت الفرحة الصاخبة الحي السكني عندما أُخمد الحريق أخيرًا، وكانت تلك اللحظة دون أدنى شك لحظة فارقة في فجر تاريخ الشركة.
لكن الحدث في نفسه كان بمثابة صدمة أثارت الحزن لدى جميع الموظفين وأفراد أُسرهم. ومن ذلك الحين، أُدخلت عديد من التغييرات على إجراءات العمل، وأصبحت ثقافة السلامة جزءًا محوريًا من طبيعة العمل اليومية، وما تزال كذلك حتى وقتنا الحاضر.
الرعب يلوح في الأفق
عندما أعلنت فرنسا وبريطانيا الحرب على ألمانيا النازية، في 3 سبتمبر 1939م، بدا لموظفي الظهران أن تلك الحرب هي شأن أوروبي خالص. ولم يتغيَّر الأمر كثيرًا عندما انضمت إيطاليا إلى ألمانيا في 10 يونيو 1940م. لكن كل ذلك شهد تغيرًا جذريًا عندما حلَّ مساء التاسع عشر من شهر أكتوبر في ذلك العام.
ففي تلك الليلة، أقلعت قاذفات القنابل الجوية الإيطالية من جزيرة رودس، التي كانت تحت السيطرة الإيطالية في ذلك الوقت، وكانت مهمتها تعطيل الإمدادات النفطية إلى البحرية البريطانية في الخليج العربي، مستهدفة مصفاة بابكو النفطية في البحرين.
وبينما كانت السرية الجوية تحلِّق فوق الجبال اللبنانية، انفصلت إحدى الطائرات عنها، وواصلت التحليق حتى رصدت بعض الشعلات النفطية. انحدرت الطائرة نحوها، وأسقطت حوالي 30 قنبلة أمطرت بها تلال الظهران!
كانت المملكة قد اتخذت جانب الحياد الرسمي في هذه الحرب. وكذلك كان الأمر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية حتى الهجوم الياباني على ميناء (بيرل هاربر)، في 7 ديسمبر 1941م، الذي جعلها تخوض الحرب. لذلك، كانت التفجيرات تلك الليلة مرعبة بالنسبة للمقيمين في الظهران، بل ويقف الوصف عنها عاجزًا.
بعد الغارة بقليل، تداعت الأنباء من المذياع مخبرة بأن القصف كان عن طريق الخطأ من الطائرة الضالة، التي ظنَّ طاقمها أنه فوق الأراضي البحرينية. وفي الواقع، فإن الضرر المباشر الذي تعرَّضت له الظهران في ذلك الحادث لم يكن جسيمًا لحسن الحظ.
وعلى الرغم من الاعتذار العلني الذي قدَّمه القائد الإيطالي، بينيتو موسوليني، للملك عبدالعزيز رحمه الله، كان الجوُّ العام في الظهران يستشعر أن حدوث غارة جوية أولى يعني أن احتمال حدوثها مرة أخرى هو أمرٌ وارد. كما أن الجميع في ذلك الوقت كان يعرف أن الظهران تنتج وتنقل يوميًا ما بين 12 و15 ألف برميل من النفط إلى البحرين، لمعالجته بحيث يُصبح وقودًا تُزوَّد به البحرية البريطانية؛ فحتى لو آثر الإيطاليون الابتعاد عن المكان، فما الذي يضمن أن تأخذ ألمانيا المسار نفسه؟
تجاوز أضرار الغارة
كان الأثر الذي خلَّفته الغارة في أعقابها بالغًا، فعلى الفور، بدأت الشركة تشهد انخفاضًا في حجم أعمالها شيئًا فشيئًا. وفي غضون ستة أشهر، انخفض عدد الأمريكيين العاملين في الظهران إلى أقل من الربع. ومع هذا الانخفاض، كان على الشركة تأجيل النظر في خطط زيادة الإنتاج، كما أُغلقت مصفاة رأس تنورة الجديدة. وفي نهاية الأمر، أُغلقت 10 آبار من أصل 16 بئرًا في حقل قبة الدمام. وبالتالي، عانت المملكة انخفاضًا واسعًا في الدخل، الأمر الذي أخَّر عددًا كبيرًا من المشاريع العامة.
وتفاقم الإحساس بالخطر نتيجة الصعوبات التي واجهها مركز الشركة الرئيس في كاليفورنيا فيما يخص شحن الإمدادات الضرورية إلى المملكة. لكن هذه العزلة رغم مرارتها لم تكسر عزيمة أولئك الذين ثبتوا في أماكنهم. فقد بدأت أعمال الحفر في بقيق مطلع عام 1941م، وتم اكتشاف حقل نفطي بدا أكبر بكثير من حقل الدمام. لم تكن هناك موارد لتطوير هذا الحقل بالطبع، لكن أخبار معدل التدفق الاستثنائي في بئر بقيق-1، الذي بلغ 9720 برميلًا في اليوم، كانت تبشِّر الجميع بأن المثابرة مجدية.
تغلَّب أولئك الموظفون الأوائل على ثلاث عقبات جسام بعد اكتشاف بئر الخير، فقد كان لهم الفضل في التخلص من الضغوط عبر استكشاف حقل نفطي ثانٍ ثمَّ ثالث، كما أخمدوا الحريق المريع الذي نشب في البئر-12، وأخيرًا تجاوزوا آثار الغارة الجوية. وبعد تلك العقبات، كان من الواضح أن لا شيء يمكن له أن يعيقهم عن المضي قُدمًا!