«عليك ألا تقبل بجائزة، وفوق ذلك؛ ألا تحاول أن تستحق واحدة». هكذا كان الشاعر والرسام وصانع الأفلام الفرنسيجان كوكتو يحذّر من الوقوع في قبضة الجوائز، ليس فقط تلك التي ينشدها المبدع ويسعى لاقتناصها، بل وحتى تلك التييتم ترشيحه لها نظير تجربة إبداعية ما. وهذا بالفعل ما قام به مواطنه الفيلسوف جان بول سارتر، حين اعتذر عام 1964م عن قبول جائزة نوبل للآداب، خوفًا من أن تحد نوبل، بطابعها المؤسسي، من تأثير كتاباته.
شكّل «غزو» العالم هاجسًا لدى المبدع البشري منذ نقشه مشاهدَ الصيد على الصخور، وهل ثمة وسيلة أنجع وأسرعلغزو الآفاق اليوم، من انتزاع الجوائز والألقاب، سوى أن تزكّي أوبرا وينفري كتابًا لك على شاشة التلفاز؟
إن الجوائز الأدبية، وإن كانت في صميمها آلة تشجيع وتفريغ للكتّاب الفارقين، فإن وظيفتها الأهم في نظري هي الكشفعن هؤلاء وتقديمهم لمجتمعاتهم؛ فهي بمثابة غرابيل يستخدمها القراء للتمييز بين الحَب والحسك، بالأخص حين تفشلغرابيل النقد الأدبي في ذلك.
ليس من اليسير أن تتخلى عن الأوسمة وهي تُمد لك، وتدير ظهرك إلى الجوائز وهي تناديك بكحل أعينها وتغويكبعطرها. إنما يزهد في فتنة الجوائز من اتخذ تجربته زوجة وحبيبة، وكانت حياته معها مكتملة الأركان، غزيرة الإلهام،عميقة الدوافع، دانية الثمار، وساخنة على الدوام. وهذا هو المستحيل بعينه، وإن تحقق لكوكتو وسارتر، البرجوازييناللذين لم تكن تعوزهما لقمة العيش، أو المعنى من الحياة، أو الشهرة المجردة، أو المقروئية العالية، أو الاعترافبالعبقرية، وفوق كل ذلك، لم يكن يعوزهما التأثير.
ألا يمكن أن يطمع بالجوائز والتقديرات، إذن، غير أعزب التجربة، أو أرملها، أو طليقها؟ أعزب التجربة الذي لميصادف شغفه الحقيقي بعد، ولم يتسنّ له اكتشاف ما يريده منها؟ أو أرملها، المحارب القديم، المرابط على ثغور الكتابةحتى شاخت وجفت منابعه، فعافها بحثًا عما يواسيه ويبهجه؟ أو طليقها، الذي هجرته حورية الإلهام وانقطعت عنهرسائلها، فظل يتردد على سوق الجوائز ليسرق لها هدية الصلح بينهما؟
وهل تحد الجوائز الأدبية من تأثير الكتابة حقا؟ هل جودة التجربة وتلقي الأوسمة على طرفي نقيض بالفعل؟ يقول عبدالوهاب أبوزيد: «لم نتغير كثيرًا.. بالأمس كان الشعراء يقفون على أبواب الخلفاء والأمراء، واليوم أصبحوا يقفون علىأبواب الجوائز، والخاسر الأكبر هو الشعر». أتفهم أن معضلة الجوائز هو الهوس بها، والتهافت عليها، والترصد لها،والتعرض لنوالها مرة بعد مرة، حتى لا يتبقى للمبدع من عمره ومخيلته ما يكفي للطيران المتخفف والاجتراح الحر. أعي والله كلَّ ذلك، ولكني أخشى على الكاتب المخلص من مرارة الإغفال، ومن إحباط أبي حيان التوحيدي، حين انقلبتبه الأيام، وتجرّع الإهمال والحرمان، فأحرق كتبه!
حيدر العبدالله، شاعر سعودي.