قبل التطورات التقنية، ربما كانت هناك متعة معرفية يمكن وصفها بالفائقة في البحث العلمي بشكل عام، سواء كان لأغراض أكاديمية، أو لغرض الكتابة المنهجية أو الإبداعية، فمصادر المعلومات متناثرة وتحتاج إلى جهد ومشقة كبيرين في الحصول عليها أولًا، ثم قراءتها وتحديد حجم الفائدة منها. وخلال كل ذلك يتعرض الباحث لكم كبير وواسع من المعارف التي تُثري فكره.
ولا يقلِّل ذلك بالضرورة من قيمة ما وفرته التقنية الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، من معارف غزيرة ومتعددة يمكن الوصول إليها بطريقة سهلة ومختصرة. ولكن الأمر يبدو في بعض الأحيان، خاصة للأجيال التقليدية، وكأنه أشبه بوجبات (التيك أوي) السريعة، من حيث عدم الاضطرار إلى الذهاب إلى المكتبات العامة، التي تُعد من أهم مصادر المعرفة والاطلاع، وكذلك انقطاع التواصل مع هذا المثقف أو ذاك الأكاديمي، للمساعدة في العثور على كتاب هنا أو معلومة هناك.
لقد خلقت التقنية الرقمية المعاصرة، بجانب وسائل التواصل الاجتماعي، كثيرًا من السهولة التي يمكن أن تتضرر منها المعرفة، على الأقل في المرحلة الثقافية الراهنة، قبل أن يتدارك المختصون الأمر، ويكتشفوا المقاربات الضرورية في التواصل المعرفي الإثرائي. فعالم الشبكات العنكبوتية أضعف مبدأ البحث، الذي تحوَّل إلى ضغطة زر لا تستتبع مجهودًا يمكن أن يجد فيه الباحث، وهو في طريقه إلى المعلومة، كثيرًا من المعارف ذات الصلة.
جانب آخر تجدر الإشارة إليه هنا، وهو ضعف التواصل الفعلي أو الحقيقي، إذ توفر العوالم الافتراضية مساحات كبيرة للاتصال، لكنها ليست بذات العمق والحضور الإبداعي والثقافي والمعرفي، اللذين كانا سائدين في الإطار التقليدي من خلال الأندية الأدبية، وأنشطة المكتبات العامة، والجمعيات الثقافية، وبيوت الشباب، وبرامج المعرفة الشاملة، التي تتضمَّن المسابقات والمنتديات وفرص الظهور وإبراز القدرات الإبداعية.
يتراجع كل ذلك الآن، وتتراجع معه فرص نمو الوعي الاجتماعي والمعرفي، ويضيق المجال البحثي مما يعني مزيدًا من السطحية، وغياب العمق الضروري لتطور الذات المعرفية والثقافية. وذلك سيؤثر سلبًا بكل تأكيد في أصحاب المواهب والقدرات، الذين يحتاجون إلى الحافز والدعم من محيط ووسط اجتماعي أكثر فهمًا وتقديرًا لما ينتجه هؤلاء. وبالتالي، فإننا نتعرض لضغط عال من موجة العولمة التقنية، التي تجعل كل شيء سريعًا وسهلًا.
من المهم النظر إلى إيجابيات التقنية الرقمية وكذلك إلى سلبياتها، حتى يجد المبدعون فرصهم لتقديم إنتاجهم الإبداعي في نطاق معرفي يعي قيمة وأهمية أعمالهم في مختلف المجالات، وأنها نتاج موهبة وروح تمتلك الكثير المتفرد الذي يمكن أن تقدِّمه. وذلك يتطلب ألا يُصاب المبدع، خاصة الناشئ الذي يتلمس طريقه المعرفي والإبداعي، بالإحباط والهزيمة الداخلية.
فعالمنا لا يزال بحاجة إلى الإبداع والابتكار، وإنجاز أشياء ذات قيمة معرفية وثقافية تعزز الوعي في جميع المجتمعات الإنسانية، التي بلا شك يوجد فيها كثير من المبدعين والمتلقين الذين يمكنهم أن يمارسوا هواياتهم في البحث والتقصي، وتوظيف سهولة البحث المعاصر كقيمة مضافة تقلل الجهد، وليس كعملية آلية تضعف الإنتاج الإبداعي، وتقلِّل من متعة البحث والمعرفة.
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.