خبرةٌ صحراوية مذهلة تكتنزها جعبة قريان الهاجري، وهذا في الواقع هو ما أثار اهتمامي عندما دعاني موظف أرامكو السعودية المتقاعد، الذي كان يعمل مشرفًا على مواقع الآبار، كي أصاحبه في رحلة صحراوية مدَّتها خمسة أيام، نقطع فيها مسافة 120 كيلومترًا، انطلاقًا من منزله بالقرب من عين دار، ووصولًا إلى مسقط رأسه بالقرب من منطقة ثاج التاريخية.
وعبر تطبيق (واتساب)، أرسل لي الهاجري خريطة رسمها بيده، حيث بدت لأول وهلة وكأنها مشهد من مشاهد فِلم ملك الخواتم. كانت الخريطة تُشير إلى بحور الرمال، وآبار المياه، والجبال ذات القمم المدببة، التي رسمها كمعالم على طريق السفر.
ومع أني لم أكن واثقًا تمامًا من أني أمتلك اللياقة البدنية الكافية، التي تؤهلني لخوض هذه الرحلة، إلا أنني كنت على يقين من أنني سأكون برفقة أفضل خبير صحراوي يمكن للمرء أن يحظى به على الإطلاق.
كما فكَّرت أن هذه الرحلة ستتيح لي اختبار قدرتي على التحمل، حيث ستضطرني إلى مغادرة قوقعتي المنعزلة المريحة، التي صنعتها لنفسي كمغترب، وتمنحني فرصة معرفة المزيد عن ثقافة المملكة، ومناظرها الطبيعية، وحياتها البرية، والتحديات البيئية لبلد أعدُّه بمثابة وطن.
دع (الجي بي إس) جانبًا
بدأ اليوم الأول للرحلة مبكرًا، حيث انطلق الهاجري مشيًا على الأقدام في الساعة الثالثة صباحًا لتفادي حرارة الشمس، وعندما التقينا به بعد ثماني ساعات على طريق تتناثر فيه الحصى، شمال هجرة الحارة، كان قد قطع مسافة 55 كيلومترًا.
أوقفنا سيارتنا فوق إحدى الكثبان، وافترشنا سجادتنا مستظلِّين بالسيارة ذات الدفع الرباعي، وقمنا بإشعال النار لنباشر بإعداد وجبة الغداء؛ كبسةٌ بلحم الإبل.
وبينما كان الغداء ينضج، بادر الهاجري إلى تشغيل أنغام الموسيقى عبر جهاز الصوت في سيارته احتفالًا ببدء الرحلة. ثمَّ رقصنا رقصة العرضة على أنغام موسيقى سعودية هادرة، لينتقل النغم بعدها أيّما انتقال إلى أغنية من أغاني الريف الغربي، للمغني الأمريكي آلان جاسكون.
وعلى مدى الأيام الثلاثة التالية، بدأ الهاجري يعلِّمني أسرار الصحراء، فيما يشبه دورة تعليمية أطلق عليها اسم البدو-101، حيث شرح لي من خلالها كيفية التنقل في الأماكن الطبيعية، والتعرف على الحياة البرية، وسبل البقاء على قيد الحياة في الصحراء.
والعجيب أن الهاجري لم يستخدم أي تقنية متطوِّرة لتحديد مساره، فقد أوضح لي طريقته الخاصة لمعرفة الاتجاه وهو يُشير إلى نبتة برية صغيرة، قائلًا: "الرياح تهبُّ من الشمال، وتخلِّف كومة من الرمال ذات اللون الفاتح على الجزء الجنوبي من النبات. فإذا أردت معرفة الشمال، دع عنك (الجي بي إس) جانبًا، وابحث عن نبتة صحراوية لتنظر في أي جهة منها يتراكم الرمل".
دروسٌ في الصحراء
كانت الرمال من حولنا هي الدروس التي تعلَّمت منها، حيث علَّمني الهاجري كيفية التعرف على آثار أقدام الجمال، أو الخِفاف، بإصبعين مدبَّبين في الأمام وعقب مستديرة في الخلف، وكذلك الثعالب، بآثار مخالبها الأمامية الصغيرة ومخلبها الخلفي الأكبر حجمًا، والخنافس، بآثار أقدامها الصغيرة المتعددة، والسحالي الصحراوية الكبيرة، بذيولها وقوائمها المخلبية مثلثة الشكل.
وخلال هذه الأيام، قمنا بزراعة بعض الأشجار في قيعان البحيرات الجافة، أو ما يُعرف بالسبخات، حيث كانت مثل هذه الأشجار فيما مضى تزيِّن المنطقة. وكأن الهاجري بذلك يُعيد إلى ذاكرتنا سيرة الأمريكي جوني أبلسيد، الذي كان حريصًا على زراعة الأشجار في كل مكان، فيما لا يدَّخر دليلنا أي جهد لاستعادة المناظر ذات الطبيعة الصحراوية القاسية، التي لا يزال يتذكَّرها من طفولته.
وحول أسباب تراجع الغطاء النباتي، قال الهاجري: "ربما يرجع الأمر إلى شح الأمطار، أو قد يكون بسبب كثرة الحيوانات والرعي الجائر. وأيًا ما كان السبب، فإننا جميعًا بحاجة إلى بذل مزيد من الجُهد لحماية البيئة".
وبالنسبة لشخص غير خبير مثلي، كان المكان من حولنا يبدو وكأنه بحر من الرمال لا آخر له، لكن الهاجري كان يوجِّه أبصارنا نحو معالم رئيسة تظهر في الأفق، أو إلى جبال صخرية بيضاء، أو بقع من النباتات الخضراء الداكنة الممتدة حول آبار المياه العامة.
وخلال اليومين الأخيرين من الرحلة، أصبحنا نقطع مسافة شبه ثابتة؛ 15كيلومترًا في الصباح، ومثلها في فترة ما بعد الظهر.
وعندما تأفل الشمس، كان الهاجري يختار إحدى الكثبان الرملية الناعمة لنفرش عليها أكياس النوم استعدادًا للمساء، ليشرع هو بتقليد بدوي قديم يتمثل في رسم دائرة في الرمال حول موقع المخيم، مع تلاوة آية الكرسي لتحفظنا من الحيوانات البرية والجن. وبعد بُرهة قصيرة، نغطُّ في النوم ملتحفين بالسماء الصافية المعتمة، ودرب التبانة، وملايين النجوم المتناثرة فوقنا.
شجرةٌ أخيرة
وفي اليوم الثالث، وصلنا إلى وجهتنا الرئيسة، حيث تل البتيل الجنوبي ذو القمة المسطحة على حدود منطقة ثاج. هذا المكان هو مسقط رأس الهاجري، فقبل 65 عامًا، أنجبته أمه عند سفح التل، تحت ظل شجرتين متجاورتين، لم يبقَ منهما اليوم إلا جذعيهما، إذ ربما قُطعتا قبل مدة غير معلومة من أجل الحصول على حطب تُوقد به النار.
وها هو الهاجري يؤدي صلاته تحت شمس الظهيرة الحارقة، ويدعو لبلده وأهلها، ولمسقط رأسه، ثم يشرع بزراعة شجرة أخيرة قبل أن نعود أدراجنا.
رحلةٌ من أجل البيئة
في منتصف أكتوبر 2020م، قام المشرف السابق على مواقع آبار أرامكو السعودية وخبير الصحراء، قريان الهاجري، بجولته السنوية في الصحراء، حيث انطلق خلالها من منزله في هجرة جنيح بالقرب من عين دار إلى منطقة ثاج القديمة حيث وُلد. امتدت الرحلة خمسة أيام قطع خلالها 120 كيلومترًا سيرًا على الأقدام.
ومنذ أن بدأ الهاجري هذه الرحلة السنوية التقليدية، لاحظ تدهور البيئة المحلية بمرور الأعوام، من قبيل تناقص الأشجار والنباتات الصحراوية، وذلك نتيجةً للتصرفات غير المسؤولة من بعض البشر، والتغيُّرات العامة الناتجة عن التذبذب في معدلات هطول الأمطار وأنماط الطقس.
وقد أراد الهاجري برحلته هذا العام أن يسلِّط الضوء على التغيرات البيئية التي شهدها، آملًا من وراء ذلك تشجيع الأفراد على إيلاء البيئة الطبيعية اهتمامًا أكبر، والسعي للمحافظة عليها مستقبلًا. وقد لاقت رحلة الهاجري حتى الآن بعض الصدى لدى عدد من الشبكات الإعلامية المحلية، إلى جانب فِلم أنتجته وزارة البيئة والمياه والزراعة في المملكة.
وكان هدف الهاجري من هذه الرحلة يتجاوز مجرد الحصول على رحلة موثَّقة بالفيديو، فهو على يقين من أنه بالإمكان تحويل الصحراء إلى بيئة أفضل، إذا ما تم تثقيف الأفراد حول أهمية حماية البيئة، حيث إن الأفراد بمقدورهم إحداث تغيير إيجابي في عالمهم من خلال اتخاذ بضع إجراءات بسيطة.
وأشار الهاجري إلى أن الرعي الجائر لقطعان الأغنام والإبل الآخذة أعدادها في الازدياد هو جزء من المشكلة، كما أن زيادة أعداد السيارات التي تعبر أراضي الصحراء، وقطع الأشجار الحية لاستخدامها حطبًا للنار، يمثل جزءًا آخر من المشكلة.
هذه الأشجار والنباتات تمكَّنت من العيش في هذا المناخ الجاف والقاسي فيما مضى، كما لا نزال نراها في المناطق المسيَّجة في مزارع مملوكة للمواطنين. وما لم يغيِّر الناس عاداتهم، ويصبحوا أكثر اعتزازًا بالحياة البرية الطبيعية في المملكة، فقد نفقد هذه الثروة إلى الأبد.
وقد أوضح الهاجري أن قلقه بشأن الوضع البيئي أخذ طابع الجدية أثناء إحدى الرحلات الاستكشافية السابقة لقافلة الإبل السعودية الأمريكية في صحراء الربع الخالي، التي انطلقت من ندقان إلى أم الحديد منذ حوالي عقد من الزمن.
في ذلك الوقت، لاحظ الهاجري التراجع الشديد للغطاء النباتي الثمين في المنطقة، حين قطع معظم تلك الرحلة سيرًا على قدميه في الصحراء بدلًا من الركوب على ظهر الجمل. آنذاك، تمتم الهاجري بالدعاء سائلًا المولى أن يتحسن الحال.