بعدما تجاذبتها النظريات لزمن طويل من دون التوصل إلى فهم حقيقتها بشكل دقيق، تشهد تعابير الوجه في الوقت الحالي مزيدًا من الدراسات العلمية الهادفة إلى فهمها بشكل أعمق، ومعرفة ما إذا كانت بيولوجية بحتة أم مكتسبة أم أنها مزيج من الاثنين. ولهذا الفهم أهميته الخاصة في العصر الرقمي. ويمكن أن تتضاعف هذه الأهمية إذا ما كانت هذه التعابير متغيِّرة بتغير البيئات الثقافية.. إذ ستترتَّب على ذلك عواقب وخيمة في مسألة قياسها لتعلُّم الآلة العميق وصناعة الروبوتات.
اتَّسقت تقليديًا وجهة نظر العلماء مع رؤى الفنَّانين في أن البشر قد طوَّروا أنماطًا معيَّنة من التعبير غير اللفظي، ومن بينها تعابير الوجه. وتم التمييز بين التعبير اللفظي الذي يستخدم الكلمات حسب الرغبة، وبين التعبير غير اللفظي الذي هو أكثر بدائية و«أعصى على التزييف» على حد قول الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. ولم يشذ عن شبه الإجماع هذا إلَّا بعض الأعمال الفنية، منها على سبيل المثال عملان فنيان كبيران، استشرفا النتائج التي تتوصل إليها أبحاث علمية حديثة.
العمل الأول هو لوحة الموناليزا التي رسمها ليوناردو دافينشي عام 1503م والتي لا تزال حتى اليوم تثير تفسيرات متناقضة لتعابير وجهها. وقد أكدت أبحاث، مؤخرًا، قام بها علماء الأعصاب والدماغ من جامعة سينسيناتي، مستخدمين تقنيات وقياسات متطوِّرة، أن ابتسامتها ربما تكون «مزيَّفة».
بعد ذلك بمئة سنة، وفي مسرحية «ماكبيث» لوليم شيكسبير عام 1606م - يعبِّر الملك دانكن عن ذهوله من خداع كاودر له، إذ لم تكن تعابير الخيانة تظهر على وجهه، فيقول: «لا يوجد علم يكتشف على الوجه ما في العقل».
وبالفعل، لم يُجمع العلماء حتى اليوم على وجهة نظر أو نظرية واحدة لفهم تعابير الوجه. فالإجماع القديم بدَّدته أبحاث حديثة خلصت إلى أن تعابير الوجه متأثرة بنوايانا وتوقُّعاتنا، ومبنية اجتماعيًا، ومتغيرة عبر الثقافات.
لكن وجهة نظر علماء آخرين تقول إن نتائج هذه الدراسات مبنية على تحيُّز ناتج عن تأثير الثقافة الغربية في كافة أنحاء العالم، حتى بين تلك الشعوب المنعزلة، حيث أجريت الأبحاث. فقد أظهرت أبحاث حديثة حول منحوتات وتماثيل ونقوش قديمة من الشعوب الأمريكية الأصلية منذ 3500 سنة، والتي لم يصلها الاستعمار الغربي في ذلك الوقت، أن هناك عددًا من تعابير الوجه، على الأقل، تتخطى الزمن والثقافات.
تطوَّرت عبر الزمن
بدأ شبه الإجماع التقليدي هذا يتعرَّض لتحديات جدية في الآونة الأخيرة. فإحدى النظريات الناشئة، والمدعومة بشكل متزايد، ترى أن تعابير الوجه لا تعكس قراءات موثوقة لمشاعرنا ولحالاتنا العاطفية، بل إنها تُظهر نوايانا وأهدافنا الاجتماعية.
فعلى سبيل المثال، ظهرت الاختلافات في تعبير الوجه عن المشاعر نفسها بيننا اليوم عند مقارنة تعبيرات الوجه في الثقافة الغربية وتعبيرات الوجه الأخرى. ففي دراسة نشرتها مجلة PNAS في مايو 2012م، وقامت بها مجموعة من الباحثين بقيادة راشايل جاك، استخدموا عدَّة تقنيات لغوية واجتماعية وحسابية متطوِّرة، تبيِّن أن الطريقة التي نفسِّر بها السعادة والمفاجأة والخوف والاشمئزاز والغضب والحزن، التي طالما اعتبرت ثابتة، في وجوه الآخرين قد تختلف اختلافًا كبيرًا عبر الثقافات اليوم. وهذا ما قد يشير إلى أن تعابير الوجه ليست مشفرة في جيناتنا.
وفي عام 2017م أجرى عدد من الباحثين تحليلًا لنحو 50 دراسة ذات صلة، صدرت في كتاب عنوانه «علم تعبير الوجه»، من منشورات جامعة أكسفورد، ووجدوا أن أقلية فقط من وجوه الناس تعكس مشاعرهم الحقيقية. ووفقًا للمؤلِّف المشارك رينر ريسينزين، كان هناك استثناء واحد قوي: التسلية التي تؤدِّي دائمًا إلى الابتسام أو الضحك. ويتردَّد ريسينزين في تفسير ما تعنيه هذه النتائج. فيقول ممازحًا: «أنا واحد من هؤلاء العلماء القدامى الذين يقومون فقط بالبحث». ومع ذلك، فهو يشعر أن هناك أسبابًا تطورية جيدة تمنعنا من الكشف عن حالتنا الداخلية لأشخاص آخرين: «هذا يضعنا في وضع غير مُؤاتٍ».
وفي السنة نفسها أجرى عالِم النفس كارلوس كريفللي من جامعة دي مونتفورت في المملكة المتحدة بحثًا نشر في مجلة «إيموشن» في مارس 2017م، واكتشف شيئًا مذهلًا حول العواطف وتعبيرات الوجه في بابوا غينيا الجديدة. فقد عرض على سكان جزيرة تروبرياند صورًا للوجه الغربي المعتاد للخوف، بعيون واسعة وفم فاغر، ثم طلب منهم تحديد ما رأوه. فلم ير التروبرياندرز وجهًا خائفًا؛ بدلًا من ذلك، رأوا مؤشرًا على التهديد والعدوان.