واحة غنية مُحصنة اتخذها العرب عاصمة لهم
دومة الجندل.. مدينة «الغموض» والطاقة والتجارة والوجه الحسن
يبدو أن دومة الجندل الواقعة في منطقة الجوف، ما زالت تختزن في باطنها الكثير والكثير من آثار الحضارات القديمة، الكفيلة بإعادة صياغة تاريخ المنطقة من جديد، وهو ما يُغري علماء الآثار بمواصلة بحثهم عن مزيد من الآثار والنقوش التي تترجم ما جاء في المصادر الآشورية الموثوقة.
وتحتوى دومة الجندل على عددٍ كبير من الأبنية التاريخية، جزءٌ منها تم اكتشاف أسراره، وبعضه الآخر مازال غامضًا، وفي حاجة إلى مزيدٍ من البحث والتنقيب والمتابعة. وهناك جزءٌ ثالث يتأرجح بين هذا وذاك، حيث كشف عن بعض مخزونه الأثري، ومازال البعض الآخر خافيًا على الأكثرية.
وإذا كان علماء الآثار قد اكتشفوا ـ بالفعل ـ في دومة الجندل قطعًا خزفية تعود للحقبتين النبطية والرومانية، فهذا لا يُرضي غرورهم المتطلع إلى اكتشاف المزيد، الذي يسهم في اكتمال صفحات تاريخ المنطقة عبر العصور القديمة.
الكتابات الآشورية
دومة الجندل؛ واحة تقع على الحافة الشمالية لصحراء النفود الكبرى، وكانت مركزًا تجاريًا مهمًا ومحطةً للقوافل، تربط الجزيرة العربية بالحضارات القديمة في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام، التي يعود تاريخها للقرن الـ11 قبل الميلاد.
ووفقًا للكتابات التي تعود للإمبراطورية الآشورية؛ فإن الواحة تتمتع بموارد مائية وفيرة وأراضٍ خصبة.
وتحتوي وثيقة تعود لعام 845م على أول مثال مكتوب لكلمة «عربي»، كما تحتوي سجلات الكتابات الآشورية على وصفٍ لمدينة «أدوماتو،» وهي تشير ـ على الأغلب ـ لدومة الجندل. وتقول إنها مدينة مُحصنة وعاصمة للعرب.
قلعة متمردة
وتُعد قلعة «المارد» أجمل الأجزاء المتبقية من هذا التاريخ الثري، وهي قلعة تقع في منطقة الجوف، ويبلغ عمرها ألفي عام، وتبعُد ألف كيلو متر إلى الشمال من الرياض، ويُعتقد أن الأنباط قد أسهموا في بنائها.
وعند اقتراب الزائر من مدخل القلعة، سيغمره شعور عارم بالدهشة من تفرد المبنى من حيث التركيب والشكل والموقع. ويقع على قمة نتوء صخري، ويتكون من أربعة أبراج. وبُنيت معظم الجدران فيها من الحجارة، أما الطبقات العليا فبُنيت من الطوب الطيني.
ويمكن للزوّار الوصول لقمة القلعة عبر أحد مدخليها الصغيرين، اللذين يقع أحدهما في الجانب الشمالي، والآخر في الجانب الجنوبي. سيُدهش الزوار أثناء سيرهم على الطريق بالحرفية العالية في تشييد الجدران والسلالم. وقد انهار أحد جوانب الجدار جزئيًا، مُفسحًا المجال لإطلالة جانبية على القلعة، الأمر الذي يُظهر ضخامة حجم المبنى.
الأبراج والغرف
ويمكن للزوار استكشاف الأبراج والغرف في قمة المبنى، والاستمتاع بمنظر أشجار النخيل والتلال المحيطة، والقرية التاريخية المجاورة التي تحتوي على بعض البيوت الطينية التي جرى ترميمها.
وبينما تتواصل أعمال الحفر الجيولوجية، ينهمك الباحثون في استكشاف الكنوز التاريخية في المدينة القديمة، مثل النظام الهيدروليكي القديم المكون من آبار وقنوات وأنفاق للري.
وبعد الخروج من القلعة، يمكن للزوّار زيارة مسجد عمر أو تأدية الصلاة فيه. وبحسب الروايات التقليدية، فقد بُني المسجد عندما توقف ثالث الخلفاء الراشدين، سيدنا عمر بن الخطاب، عند القلعة في طريقه للقدس عام 637م.
ويقول بعض الباحثين إن المسجد شُيِّد في وقت لاحق أثناء الخلافة الأموية. ويتميز المسجد والمئذنة بطابع هندسي فريد. ويتيح القرب اللصيق بين المئذنة والقلعة إظهار التمايز بين الحقبتين.
مزارع النخيل
وعلى بُعد 4 كيلومترات تقريبًا إلى الشرق من القلعة، وعبر مزارع النخيل، يمكن للزوّار زيارة بحيرة دومة الجندل، التي تمتد لمسافة 3 كيلومترات تقريبًا، وهي أُنشئت في ثمانينيات القرن الماضي بغرض تخزين المياه للري. وفي هذا المشهد الساحر، يمكن للزوّار الذهاب في جولة بالقارب أو الاستمتاع بالمنظر من المنتزه على الجانب الغربي من البحيرة.
أعمدة الرجاجيل
تقع «أعمدة الرجاجيل» في الموقع الذي يُعد ـ ربمّا ـ الأكثر تاريخية وغموضًا، على بُعد 40 كيلومترًا جنوب شرق القلعة. وتحتوي الأعمدة التي يبلغ عمرها 6 آلاف عام على ما يقرب من 50 عمودًا، يبلغ ارتفاع بعضها 3 أمتار، وهناك تفاوت يميز الحالة التي عليها هذه الأعمدة.
وعند النظر لهذه الأعمدة من الأعلى، تبدو وكأنها تقع على محور يمتد تقريبًا من الشرق إلى الغرب.
ويعتقد بعض علماء الأنثروبولوجيا أن تلك الأبنية قد استُخدمت لأغراض دينية، فيما يؤمن علماء آخرون أنها استُخدمت للدلالة على تبدل الفصول. ويتضح من الاختلاف في النتائج أن الأعمدة لا تختلف عن حجارة «ستونهينج» الأثرية في انجلترا، وأن الغرض الحقيقي من تلك الأعمدة يبقى غامضًا.
مدينة سكاكا
وعلى بُعد 20 كيلومترًا إلى الشمال من أعمدة الرجاجيل، تقع مدينة سكاكا، وهي عاصمة منطقة الجوف، وتحتوي على الكثير من الفنادق والمطاعم والمتاجر. ويقع فيها قصر زعبل الذي يُشبه قلعة مارد، على قمة صخرة مرتفعة شمال غرب المدينة.
وسيجد الزوار محال بيع تجزئة حديثة متخصصة في الزيتون والمنتجات المرتبطة به، بما فيها المخللات ومستحضرات التجميل. ويوجد في منطقة الجوف 11 مليون شجرة زيتون، أي ما يعادل 82% من أشجار الزيتون في المملكة، حسب أحدث مسح صادر عن الهيئة العامة للإحصاء حول الإنتاج الزراعي.
ومن المثير للاهتمام أن أشجار الزيتون هي أكثر الأشجار المثمرة الدائمة زراعةً في المملكة بعد أشجار النخيل. ويخمِّن العلماء أن المحاصيل المتوسطية، بما في ذلك الزيتون والبرتقال، كانت تُزرع في هذه المنطقة منذ أزمان بعيدة.
الطاقة البديلة
ولا تُخطئ العين، بضع تطورات حديثة جديرة بالملاحظة. ومن هذه التطورات بناء أول محطة توليد طاقة شمسية ضخمة في المملكة خارج مدينة سكاكا. وتنتج المنشأة 300 ميغاواط من الكهرباء.
وتنشغل فرق العمل ببناء أول محطة لتوليد الطاقة من الرياح على مستوى تجاري، بالقرب من دومة الجندل، بهدف توليد 400 ميغاواط من الكهرباء. كما أعلن المسؤولون أخيرًا كذلك عن اكتشاف مواد هيدروكربونية في المنطقة.
ورغم أن القوافل لم تعد تمر من المنطقة منذ فترة طويلة، وبالتالي لم تعد الواحة مركزًا لوجستيًا وتجاريًا مهمًا، فإن زوّار دومة الجندل سيُعجبون بجمال المزارع الخصبة والقلعة ويتأملون في أصول أعمدتها الغامضة.