مرت السينما في العالم العربي وفي دول الخليج، بل في العالم برمته بمراحل تطور عديدة ربما لا يعرف عنها الجيل الحالي إلا النزر اليسير من المعلومات، والأرجح أن أغلبهم لا يعرفون عن بدايات تشكل السينما ومراحل ظهورها الأولى في هذا الركن من العالم.
أول صالة سينمائية في الوطن العربي ظهرت في مصر عام 1899م، ثم في سوريا وفلسطين عام 1908م، فلبنان عام 1930م. أما في الخليج فقد كان للبحرين قصب السبق في هذا المجال وذلك حينما بنى محمود الساعاتي سنة 1922م كوخًا صغيرًا على ساحل البحر بالمنامة، وضع فيه 30 كرسيًا ولوحة بيضاء لتقوم مقام شاشة العرض.
بعد ذلك ظهرت دور العرض بالمواصفات الحديثة، وكان أولها سينما "مرسح البحرين" التي افتتحت عام 1927م، وعرفت شعبيًا باسم سينما "بن هجرس" نسبة إلى أحد أصحابها. بقيت سينما بن هجرس الوحيدة في البلاد حتى الثلاثينيات، وهي العشرية التي شهدت ظهور صالات أخرى كان من بينها صالة في منطقة عوالي مخصصة لأسر وموظفي شركة بابكو النفطية.
وهذه كانت مشابهة لتلك التي ظهرت في الظهران لاحقًا للترفيه عن كبار موظفي شركة أرامكو (سينما السنيور ستاف) أو الترفيه عن موظفي وعمال الشركة المتوسطين (سينما الانترميديت). ومثلهما سينما مطار الظهران التي أنشئت في الأربعينيات للترفيه عن جنود بعثة التدريب العسكرية الأمريكية.
في تلك السنوات الخوالي لم تكن صالات السينما التجارية في الخليج فسيحة ونظيفة ومعطرة ومكيفة وهادئة وذات مقاعد وثيرة كما هي اليوم، بل كانت ضيقة بمقاعد تؤلم الظهر، ويفتقر معظمها للتكييف ودورات المياه ومنصات الأكل والشرب.
كما أن ثقافة ارتياد السينما وسلوكياتها، كالإنصات دون تعليق أو ثرثرة، كانت مفقودة إلى درجة أنه لم يكن يمر عرض سينمائي دون اشتباكات يدوية أو لفظية بين الحضور، أو دون صفير وصراخ احتجاجًا على مشهد تمثيلي. ودليلنا أن أول دار للعرض ظهر في الكويت عام 1954م وهي "سينما الشرقية" سرعان ما اضطرت إلى إغلاق أبوابها عام 1957م بسبب أعمال تكسير وتقاذف بزجاجات المرطبات داخل الصالة لأن الجمهور لم يعجبه الفيلم الهندي المعروض.
من جهة أخرى، وبسبب محدودية وسائل الإعلام وقلة عدد صفحات الجرائد آنذاك، كان الإعلان عن الأفلام السينمائية المعروضة في البحرين مثلًا، يتم شفويًا من خلال استئجار بعض الصبية والعمال للترويج له عن طريق إلصاق "بوسترات" الفلم على ظهورهم ودفعهم للتجوال في الأحياء والطرقات المكتظة بالناس، وهو يرددون بصوت عالٍ "السينما الفلانية تعرض الفيلم الفلاني من بطولة الممثل الفلاني.. لا يفوتكم.. العرض يبدأ الساعة كذا.. الكراسي محدودة".
ومن المفارقات التي سجلت آنذاك أن المروج لفلم "عنتر وعبلة"، الذي عشقه الكثيرون من محبي أفلام "الأكشن" والمبارزة بالسيوف في الخمسينيات كان يصرخ قائلا: "تعالوا شوفوا عنتر الليلة.. عنتر صار أقوى من البارحة.. وسيفه صار أطول.. وحبيبته عبلة صارت أجمل". الغريب أن مثل هذه العبارات الزائفة كانت تنطلي على بعض السذج، فيذهب الواحد منهم لمشاهدة فلم كان قد شاهده في الليلة السابقة كي يكتشف الفرق المزعوم، بل كان يخرج من الصالة معلنًا أن عنتر كان بالفعل أقوى من البارحة، وأنه قتل بسيفه الجديد عددًا أكبر من أعدائه، وأن عبلة كانت بالفعل أجمل، وإن كان وزنها قد زاد قليلًا.
تقول المرويات إن ظاهرة الإعلان والترويج الشفوي في البحرين، والتي عاصرها الرعيل الأول بطرائفها الكثيرة، انتقلت إلى العراق وكان الناس يستجيبون لها، وخصوصًا إذا كان المعروض فلمًا مصريًا من أفلام ثنائيات الخير والشر من بطولة محمود المليجي وفريد شوقي، حيث كان المروجون للفلم يغرون الجمهور بقولهم إن الأول سوف يسدد للثاني الليلة 1000 لكمة أو العكس، وهو ما كان يجعلهم يتعاطفون مع المجسّد للخير ويحذرونه خلال العرض بالتصفير، تنبيهًا من ضربة مباغتة، أو خديعة ماكرة، وهكذا.
شخصيًا، تعلقت بالسينما ومشاهدة الأفلام منذ الصغر. ولحسن حظ جيلنا أن محطة تلفزيون أرامكو، التي بدأت بثها في 16 سبتمبر 1957م من الظهران كثاني محطة تلفزيونية في الشرق الأوسط بعد محطة تلفزيون بغداد، كانت تبث مساء على مدار الأسبوع أفلامًا عربية من إنتاج الاستوديوهات المصرية أو أفلامًا أمريكية من إنتاج هوليوود.
لكننا بعد فترة من العشق والتماهي مع هذه الأفلام وقصصها ونجومها، سعينا لمشاهدتها ملونة وهي تعرض على شاشات ضخمة في دور السينما، فلم نجد أمامنا، لتحقيق هذه الرغبة المتواضعة، سوى "سينما الانترميديت" بحي الموظفين المتوسطين بالظهران، والتي كانت مخصصة فقط لموظفي أرامكو المقيمين في الحي، لكن هؤلاء كان بإمكانهم إدخال ما لا يزيد عن ثلاثة أشخاص من أقاربهم وضيوفهم في كل عرض. كنتُ أحد الذين ترددوا لسنوات على هذه الصالة، متى ما وجدتُ صديقًا أو قريبًا يستضيفني ويقطع لي تذكرة الدخول، فقيمة التذكرة، رغم أنها لم تكن تتجاوز الريالين إلا أنها كانت مرهقة لجيوبنا الطلابية الخاوية آنذاك.
أتذكر أن "سينما الانترميديت" كانت مفتوحة (أي بلا سقف)، ولئن كان ذلك مناسبًا ومريحًا في فصل الصيف الخانق، إلا أنه كان مزعجًا في فصل الشتاء، خصوصًا وأن شتاء الستينيات كان قارسًا وعادة ما تصحبه الأمطار الغزيرة. لذا كان الحضور حريصين على ارتداء الملابس الشتوية الثقيلة، بل كان بعضهم يجلب معه البطانيات والمشروبات الساخنة، والبعض الآخر يجلب المظلات تحسبًا لهطول الأمطار. أما المقاعد فقد كانت خشبية تمنع المشاهد من التمتع بمشاهدة العرض براحة واسترخاء. وبسبب الجزئية الأخيرة، رحنا نبحث عن طريقة للانتقال إلى "سينما السنيور ستاف" في حي كبار الموظفين، حيث الصالة مغلقة والمقاعد وثيرة والحضور أكثر أناقة وحرصًا على الإنصات.
غير أن الدخول إلى هذه الصالة السينمائية لم يكن بالأمر السهل، فلا أصدقاء لنا أو معارف من كبار الموظفين كي يصطحبوننا معهم، ولا قدرة مادية لنا على دفع قيمة تذكرة الدخول البالغة ثلاثة ريالات، وهو مبلغ كبير نسبيًا بمقاييس ذلك الزمن.
على أن عشق السينما الذي زرعته فينا محطة تلفزيون أرامكو ابتداءً، جعلنا في أحايين كثيرة نجازف بالوصول إلى حي كبار الموظفين على أمل أن يعطف علينا موظف شباك التذاكر ويسمح لنا بالدخول، أو على أمل أن يرق قلب أحد الداخلين فيصطحبنا معه. وقد نجحنا أحيانًا وفشلنا في أحايين أخرى.
رحلات السينما هذه من الخبر إلى الظهران، رغم مشقتها بسبب السير على الأقدام تحت أشعة الشمس للوصول إلى وجهتنا في الوقت المناسب مساء ــ أي قبل رفع الستار وبدء العرض ــ ورغم ما كانت تستهلكه من مدخراتنا البسيطة، إلا أنها كانت تنتهي نهاية سعيدة بتمكننا من مشاهدة فلم جميل تظل حكايته مستقرة في وجداننا لأيام وتفاصيلها على ألسنتنا ننقلها بخيلاء للزملاء المبهورين غير المصدقين.
ولا أبالغ لو قلت إن ترددنا على صالات أرامكو السينمائية أو صالة سينما النخيل بمطار الظهران، لعب دورًا مهمًا في الارتقاء بذائقتنا الفنية، وأسهم في تشكل وعينا المبكر، وعرّفنا على الكثير من أساليب المخاطبة باللغة الإنجليزية، وأكسبنا ثقافة لا تقدر بثمن عمّا يوجد خارج مجتمعاتنا من مظاهر الحياة العصرية وطقوس وعادات المجتمعات الأخرى، وما يدور فيها من حكايات وصراعات، خصوصًا وأن بعض الأفلام كانت مبنية على روايات من الأدب العالمي مثل "دكتور جيفاكو" لبوريس باسترناك، و"ذهب مع الريح" لمارغريت ميتشل، و"وداعًا للسلاح" لأرنست همنغواي، و"الحرب والسلام" لتولستوي.