منذ بداية العصر الصناعي في القرن الثامن عشر وحتى الربع الأخير من القرن العشرين، تعاملت مختلف الدول والمجتمعات مع الأنهار باستهتار مثير للاستفزاز، إذ وجدت في هذه المسطحات المائية الجارية مجالًا للتخلص من كل أنواع القاذورات والمخلفات والنفايات البشرية والحيوانية والصناعية، لتنقلها الأنهار إلى أماكن أخرى. فتدهورت أحوال معظمها. حتى أن معظم الأنهار الأوروبية، على سبيل المثال، كان قد أصبح في أواسط القرن الماضي غير صالح للاستحمام البشري فيه.
ومع ظهور الوعي البيئي وتنامي نفوذه السياسي، يمكن القول إن تدهور أحوال الأنهار قد تباطأ، فسنّت قوانين كثيرة في معظم بلدان العالم لحماية أنهارها، وفي البلدان التي للوعي البيئي فيها قوة سياسية ملحوظة، تحسّنت أحوال بعض الأنهار. فالدراسات تشير إلى أن نهر التيمز الذي يخترق العاصمة البريطانية لندن بات اليوم أنظف مما كان عليه في النصف الأول من القرن العشرين. الأمر نفسه ينطبق على نهر السين في فرنسا، وإن كان صيد أسماكه وتناولها لا يزال ممنوعًا بسبب مستويات التلوث فيه.
وفي الصين يُعـدُّ تلوث الأنهار أحد أكبر القضايــا الوطنية. فنهر (هيه) الذي يمر بالعاصمة بكّين ومدينة تيانجين ملوّث إلى درجـة تجعــل مياهه لا تصلح لشيء. أما النهر الأصفر فنحو ثلث مياهه لا يصلح لا للري ولا للصناعة.
الأمر نفسه ينطبق على معظم أنهار العالم بنسب مختلفة. فشرب الماء من النهر مباشرة بات أمرًا من الماضي. وفي أحسن الأحوال، على مياه النهر أن تمر بمعامل التكرير لكي تصبح صالحة للشرب.
نهر النيل
يتنازع نهرا النيل والأمازون لقب أطول نهر في العالم، بفارق كيلومترات قليلة تعود إلى طرق احتساب التعرجات وأبعد منبع لروافده عن المصب.
يبلغ طول النيل نحو 6670 كيلومترًا. وهو يتألَّف كما هو معروف من رافدين أساسيين هما النيل الأبيض الذي ينبع من بحيرة فيكتوريا، والنيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة تانا في إثيوبيا. ويلتقي هذان الرافدان العظيمان بالقرب من العاصمة السودانية الخرطوم، ويتابع النيل الموحّد مجراه حتى البحر المتوسط، حيث يشكِّل بالقرب من الساحل دلتا في غاية الأهمية الاقتصادية والبشرية.
منذ العصر الحجري، كان النيل عصب الحياة الرئيس في السودان وجنوب مصر، وتجمعت المستوطنات البشرية الأولى على ضفافه، وتركَّزت بشكل خاص شمالي أسوان. وذلك لأن مجرى النيل كان ينعطف في مكان قريب من أسيوط صوب الغرب، ليصب في خليج سدرة في ليبيا. غير أنه في أواخر أحدث عصر جليدي (10000 سنة ق.م.)، أدَّى ارتفاع مستوى البحار إلى تعزيز المجرى الفرعي في أسيوط باتجاه الشمال، ليصبح في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد مجرى النيل الحالي، وعلى ضفاف المجرى الجديد نمت الحضارة الفرعونية وتوسعت، ونشأت معظم المدن المصرية الكبرى.
ويعزو المؤرِّخون إلى فيضان النيل وحاجة الناس إلى السيطرة عليه سبب التفاف الناس حول سلطة مركزية قوية، كانت نواة نشوء باكورة الأنظمة السياسية المطلقة في العالم.
وأن تكون مصر اليوم «هبة النيل» كما كانت عندما وصفها بذلك المؤرِّخ الإغريقي هيرودوت، فهذا لا يعني أنها الوحيدة في ذلك. فحوض النيل يتوزَّع على ثمانية بلدان غير مصر والسودان، وهي: جنوب السودان، إثيوبيا، أوغندا، كينيا، تانزانيا، رواندا، بوروندي، وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
ونتيجة لأهمية النهر بالنسبة لاقتصادات هذه الدول وللحياة فيها، وللاضطراب السياسي الذي تسببت به أكثر من مرة مشروعات إقامة سدود عليه، تم توقيع اتفاقية دولية في عام 1999م، عرفت باسم «مبادرة حوض النيل»، لدعم التعاون بين هذه الدول واستغلال النهر بشكل عادل ومتوازن في ما بينها.
نشر في مجلة القافلة
عدد نوفمبر/ ديسمبر 2018م