اقتصاد الابتكار هو مصطلح صاغه عالِم الاقتصاد الأمريكي، جوزيف شومبيتر، في أربعينيات القرن العشرين، لكنه لم يتجذَّر في الاقتصاد ويصبح مفهومًا رئيسًا إلا عندما أصبحت تقنية المعلومات والمعرفة المورد الرئيس في الاقتصاد.
وكما في كل مفاصل التحوُّلات الكبرى، تبقى المفاهيم والنظريات القديمة والجديدة متداخلة بعضها ببعض إلى فترة معيَّنة. أما اليوم، فإن مفاهيم اقتصاد الابتكار باتت أوضح من أي وقت مضى، ونشأت مؤسسات عالمية تصنِّف الدول بمدى تقدُّمها على هذا الصعيد، وأشهرها هو (مؤشر الابتكار العالمي).
مميِّزات الاقتصاد الجديد
ولفهم محورية الابتكار في عصر هذا النوع من الاقتصاد، لا بدَّ أولًا من توضيح اختلافه عن مفهوم الاقتصاد التقليدي؛ فاقتصاد الابتكار ليس اقتصاد نُدرة، كما كان يتطلَّع إليه الاقتصاد التقليدي، بل اقتصاد وفرة.
وتمحور علم الاقتصاد التقليدي حول محدودية الموارد وقابليتها للاستنفاد كلما استُخدمت، وأنها لا تكفي لسد حاجات الناس؛ لأنهم عندما يسدُّون حاجاتهم الرئيسة يتطلَّعون إلى الحاجات الكمالية التي تصبح رئيسة بدورها، وهكذا دواليك.
وعلى عكس ذلك، فإن موارد اقتصاد الابتكار غير محدودة ولا تُستنفد عند استخدامها؛ بل إن المعرفة تنمو وتتطوَّر بفعل استخدامها وتطبيقها، وتتجدَّد من خلال التفاعل واسع النطاق لمستخدميها، أو من خلال استنتاج ردود أفعالهم لتطويرها وتوسيعها باستخدام البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي. وهي، في الوقت نفسه، توفِّر في استهلاك الموارد التقليدية.
كما يتخفَّف الاقتصاد الجديد من العوائق الجغرافية، فباستخدام التقنية والأساليب المناسبة، يمكن إنشاء الأسواق والمؤسسات الافتراضية بسهولة ومن دون تكاليف باهظة، عن طريق الابتكارات الفريدة، التي توفِّر مزايا السرعة وخفَّة الحركة والتشغيل على مدار الساعة للتواصل من دون انقطاع مع العالم.
ويقوم الاقتصاد التقليدي بشكل رئيس على الأسواق، التي يُفترض أنها في حالة توازن من خلال ما أطلق عليه آدم سميث (اليد الخفية). ويُفترض أن الأفراد والمؤسسات يتصرَّفون بعقلانية استجابة لإشارات الأسعار على طول منحنيات العرض والطلب والتوزيع الفاعل للموارد. كما تركِّز النظريات الاقتصادية التقليدية على أن تراكم رأس المال هو المحرِّك الرئيس للنمو الاقتصادي.
في المقابل، يقوم الاقتصاد الجديد على ابتكار القرارات الجديدة باستمرار، فالشركات والمؤسسات المتوانية تسقط بسرعة، وتحل أخرى جديدة ذات حيوية إبداعية لا تنتظر آليات السوق لأخذ القرارات. لذلك نرى أن معظم الشركات العملاقة في سوق المعرفة هي جديدة كليًا. وهذا يتطلَّب قيادة ديناميكية قادرة على المخاطرة الإيجابية مقابل الممارسات الحذرة والبطيئة للمؤسسات القائمة.
التحوُّل نحو اقتصاد الابتكار
عادة، يميل الأفراد والمؤسسات، وحتى الحكومات، إلى الارتياح لتقاليد ورؤى ونظريات اقتصادية اعتادوا عليها في السابق لتسيير شؤونهم. والأرجح أن تكون هذه الرؤى والنظريات قد ظهرت في الماضي استجابة لظروف قاهرة فشكَّلت حلولًا ابتكارية فذَّة. لكن الركون إليها، في ظل التغيُّرات الكبيرة والسريعة التي يمر بها الاقتصاد العالمي، يصبح مقبرة للتقدُّم.
ويجب على مؤسسات الأعمال عدم الاكتفاء بكفاءاتها التقليدية الرئيسة، وإجراء تحسينات تدريجية للمحافظة على التفوق في المنافسة، فلكي تكون رائدةً حقيقيةً في أي صناعة، يجب أن تركِّز الأعمال التجارية على إطلاق ما يسميه هامل (ابتكارات قاتلة)، بمعنى فريدة، لا يستطيع أحد آخر إنتاجها ومنافستها.
ولإنشاء ميزة تنافسية، يجب أن يكون الابتكار فريدًا، إما مع الملكية الفكرية أو الاستفادة من القدرات الفريدة للمؤسسة، بحيث لا يمكن للآخرين تكرارها. فإذا كان من الممكن تكرار أي فكرة جديدة بسهولة، فستفقد أي ميزة لها بسرعة. ومن أمثلة هذا النوع من الابتكار: غوغل، التي غيَّرت نموذج العمل الإعلاني، وأمازون، التي عطَّلت نموذج بيع الكتب التقليدي، ونتفليكس، التي غيَّرت الطريقة التي يشاهد بها العالم محتوى الفيديو.
وتشمل التدابير الهيكلية لتعزيز الابتكار زيادة الإنفاق على البحث والتطوير والاستثمار في التعليم، فضلًا عن تمكين روَّاد الأعمال من بدء أعمالهم بسهولة أكبر، وتمكين الشركات الفاشلة من الخروج من السوق بسرعة أكبر. إضافة إلى ذلك، يمكن للشركات تسهيل الابتكار من خلال الاستثمار في موظفيها وإجراء البحث والتطوير الخاص بهم.
وتلعب الجامعات دورًا رئيسًا في اقتصاد الابتكار، فهي المكان المثالي لإجراء الأبحاث، والتفاعل بين الحقول العلمية المتعدِّدة، كما أنها تهيئ القوى العاملة والقيادات المستقبلية. وتجمع الجامعات العلماء من كافة الأطياف ليعملوا جنبًا إلى جنب لقيادة الثورة المعرفية.
ويحدث الابتكار ونمو الإنتاجية في سياق المؤسسات الديناميكية، وتجاوز المؤسسات القديمة لإيجاد أخرى متجدِّدة باستمرار، والتفاعل الخلاق بين المؤسسات الخاصة والعامة. ومن خلال تضافر هذه الجهود يتم تعزيز القوة الإنتاجية والإبداعية للاقتصاد.
مؤشر الابتكار العالمي
ومن المعروف أن هناك عديدًا من المؤسسات العالمية والوطنية التي أُنشئت منذ مدة طويلة لتصنيف الدول اقتصاديًا من ناحية الإنتاجية والتنافسية والكفاءة وغيرها. لكن التركيز على محورية الابتكار هي أمر جديد نسبيًا. وإحدى المؤسسات البارزة في هذا المجال هو مؤشر الابتكار العالمي (Global Innovation Index)، الذي يُصدر تقريرًا سنويًا يصنِّف الدول من خلال قدرتها على الابتكار والنجاح فيه.
وأُنشئت هذه المؤسسة بداية عام 2007م من قِبل المعهد الأوروبي لإدارة الأعمال (إنسياد)، ومجلة عالم الأعمال البريطانية. وبعد وقت قصير، أصبح التقرير يصدر من قبل جامعة كورنيل، وإنسياد، والمنظمة العالمية للملكية الفكرية، بالتعاون مع الاتحاد الدولي للاتصالات، والبنك الدولي، والمنتدى الاقتصادي العالمي، وذلك بهدف توفير المعلومات للشركات والحكومات والمسؤولين الحكوميين لمقارنة بلدانهم مع البلدان الأخرى حسب مستوى الابتكار.
ويوفِّر مؤشر الابتكار العالمي 2020م مقاييس مفصَّلة حول أداء الابتكار في 131 دولة واقتصادًا حول العالم. وتستكشف المؤشرات البالغ عددها 80 مؤشرًا رؤية واسعة للابتكار، بما في ذلك التعليم والبنية التحتية وتطوُّر الأعمال والاستقرار السياسي.
ويتناول التقرير حالة هذه الاقتصادات مركزًا على جانب معيَّن منها بشكل مختلف كل سنة، فنسخة 2020م تسلِّط الضوء على تطوُّر آليات التمويل لروَّاد الأعمال والمبتكرين الآخرين، ومن خلال الإشارة إلى التقدُّم والتحديات المتبقية، بما في ذلك في سياق التباطؤ الاقتصادي الناجم عن أزمة كورونا.
وتميَّز تقرير 2020م بثلاثة اتجاهات رئيسة، هي: انخفاض تمويل الابتكار خلال الجائحة، وتحوُّل في المشهد الابتكاري العالمي وسط صعود متزايد للصين وفيتنام والهند والفيليبين، وأداء ممتاز على صعيد الابتكار في الدول النامية.
الابتكار لمواجهة الجائحة
فرض تطوُّر العولمة تحديات استثنائية في ظل جائحة كورونا العصية على المعالجة حتى الآن، والتي لم يختبرها العالم منذ جائحة الأنفلونزا العالمية منذ مائة سنة ونيف. وفي هذا الوقت، يتطلَّع معظم سكان الأرض إلى الأماكن الأكثر ابتكارًا لاكتشاف علاجات ولقاحات.
كما يجد العالم نفسه اليوم بحاجة إلى نقل العمل والتعليم واللعب إلى العالم الرقمي بسرعة كبيرة؛ وهنا تبرز أهمية الابتكار. وتركَّزت المجالات الإبداعية في الوقت الحالي في الحلول المبتكرة للصحة العامة، وهذا أمرٌ طبيعي، لكنها توسعت أيضًا في مجالات مثل العمل عن بُعد والتعليم عن بُعد والتجارة الإلكترونية والتنقل.
وجاءت توصيات مؤشر الابتكار العالمي لما بعد الجائحة كما يلي:
- للبقاء في القمة، يجب مواصلة الاستثمار في التعليم الجديد، وإبقاء البلدان مفتوحة للأعمال والانفتاح على العالم.
- على خطط التعافي أن تحقق توازنًا بين الحاجة إلى حماية الوظائف بالمحافظة على الاستقرار على المدى القصير، والحاجة إلى تغييرات طويلة الأجل.
- يجب أن يظل التمويل المستدام لأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة والابتكار من الأولويات العالمية العالية، لأنهما يسيران جنبًا إلى جنب.
براءات الاختراع
تمثِّل براءات الاختراع أحد أهم المظاهر الرئيسة للابتكار، ويجمع الاقتصاديون على أهميتها في تشجيع الاكتشاف والاختراع العلمي والتقني.
وفي دراسة أجرتها منظمة التعاون والتنمية (OECD) عام 2008م، جاء أن "المستويات الأقوى من حماية براءات الاختراع ترتبط ارتباطًا إيجابيًا وكبيرًا بتدفقات المنتجات عالية التقنية، وتدفع إلى زيادة النفقات على البحث والتطوير".
وقد أثبتت التجربة أن نظام براءات الاختراع هو أحد أكثر الأدوات فاعلية في نشر المعرفة ونقل التقنية على النطاق الوطني والعالمي.
ووجدت دراسة أجراها الاقتصاديان الفرنسيان، فرنسوا لي فيك ويان مينير، في عام 2006م، أن 88% من الشركات الأمريكية والأوروبية واليابانية قالت إنها تعتمد بالفعل على المعلومات التي تم الكشف عنها في براءات الاختراع لمواكبة التقدُّم التقني، وتوجيه جهود البحث والتطوير الخاصة بهم.
ولربما اعتقد كثيرون أن الاختراقات العلمية الكبيرة تؤدي إلى إغلاق الباب أمام مزيد من الاختراعات أو عرقلتها. لكن دراسةً أُجريت في عام 2013م، حول توماس أديسون وبراءة اختراعه للمصابيح المتوهجة سنة 1880م، تبيَّن أنها قد حفزت آخرين لإطلاق فيض من الاكتشافات في المجال نفسه، مما أدى إلى تطوير تقنيات جديدة ذات أهمية تجارية مثل لفائف تسلا، والموصلات محكمة الإغلاق، وغيرها.
ولنأخذ على سبيل المثال أكبر الصناعات الجديدة المولدة للوظائف في الأعوام الستين الماضية في الولايات المتحدة وهي: الإلكترونيات الاستهلاكية، والحواسيب الشخصية، والبرمجيات، والتقنية الحيوية، والهواتف المحمولة، والتجارة الإلكترونية عبر الإنترنت، فقد تم إطلاقها ونمت بقوة على أساس اختراعات حصلت على براءة اختراع ابتكرتها شركات ناشئة. وتمكنت هذه الصناعات من الازدهار بسبب سهولة حصولها على المعلومات.
والمثال القوي على علاقة أنظمة براءات الاختراع بتشجيع الابتكار هي الصين، عندما استبدلت نظامها القديم بآخر مشابه للنظام الأوروبي، فانطلقت فيها نهضة علمية وتقنية كبيرة جدًا.
من جهة أخرى، توضح الأدلة التجريبية أهمية البراءات والملكية الفكرية كعامل رئيس في النمو الاقتصادي، لا سيما في الاقتصادات القائمة على المعرفة. وتلعب الملكية الفكرية والبراءات دورًا مهمًا في قرارات الاستثمار في الابتكار. وإضافة إلى تعزيز الإنتاجية والربحية، فإن الملكية الفكرية والبراءات لها قيمة نقدية، تمامًا كباقي الموجودات غير الملموسة، وتُعدُّ إضافة مهمة إلى الميزانية العمومية لأي شركة وتزيد من قيمتها السوقية.
منقول بتصرف من مجلة القافلة
الابتكار .. إستراتيجية رئيسة وثقافةٌ راسخة
تدرك أرامكو السعودية الأهمية المتنامية للابتكار، والدور الذي يلعبه في المستقبل، ولهذا فهي تتبنَّى إستراتيجية ترتكز على التقنية والابتكار، وتمضي في إنجاز خطوات واسعة في طريق تحقيق الريادة في هذا المجال.
وكجزء من إستراتيجيتها للتحول الرقمي عبر جميع مراحل سلسلة القيمة في أعمالها، أنشأت الشركة مركزًا حديثًا للثورة الصناعية الرابعة، كمنصة تمكِّن من التوظيف السريع لمبادرات التحول الرقمي، وتعزّز الابتكار، وتُسهم في تشكيل التصوُّرات التقنية، وتطوير المواهب البشرية.
ويؤدي استثمار تقنيات الثورة الصناعية الرابعة إلى تحقيق فرص صنع القيمة في مختلف أعمال لشركة، كما تهدف الاستفادة من الذكاء الاصطناعي والرقمنة إلى تحسين الأداء، وتوفير التكاليف، واستدامة الموارد، ومواجهة تحديات الأعمال، وحماية البيئة.
وكشاهد على ريادة الشركة في تبني تقنيات الثورة الصناعية الرابعة ضمن مرافق أعمالها، احتفى منتدى الاقتصاد، مؤخَّرًا، بحقل خريص للنفط في أرامكو السعودية، نظير تميزه في تبني تطبيقات هذه التقنية، لينضم إلى معمل الغاز في العثمانية ضمن قائمة المنارات الصناعية العالمية.
إلى جانب ذلك، تتنامى جهود البحوث والتطوير في أرامكو السعودية بوتيرة متسارعة، وذلك بهدف دعم أعمال الشركة عبر شبكة من مراكز البحوث العالمية التابعة لها. وكمثال على هذه الجهود، نجحت الشركة في تصدير الشحنة الأولى من الأمونيا الزرقاء عالية الجودة إلى اليابان، لاستخدامها في إنتاج الكهرباء دون انبعاثات كربونية.
وفي الاتجاه نفسه، تسعى الشركة إلى ترسيخ ثقافة الابتكار في بيئة أعمالها، وتحفيز طاقاتها وقدراتها البشرية على احتضان الابتكار والإبداع قلبًا وقالبًا. وقد مكَّنت هذه الثقافة الشركة من تبوء مكانة عالمية يُشار لها بالبنان على هذا الصعيد، وليس أدل على ذلك من تفوقها في قطاع النفط والغاز لعام 2019م بعدد براءات الاختراع التي حصلت عليها.
وتشجِّع الشركة تنظيم المنتديات وورش العمل، التي تسعى إلى ترسيخ ثقافة الابتكار على مستوى مختلف دوائر الشركة، كما أنها تُسهم في صناعة بيئة تحتضن المبتكرين على مستوى المملكة، وتُشارك بفاعلية ضمن المؤتمرات العالمية، التي تمثِّل منصات لمشاركة الأفكار والابتكارات وتبنيها، وبناء الشراكات النافعة في مجال الابتكار والاختراع.
وفي هذا الإطار، شاركت أرامكو السعودية، مؤخَّرًا، بصفتها شريك معرفة إستراتيجيًا رئيسًا في المؤتمر العالمي الأول للموهبة والإبداع، الذي نظَّمته مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع «موهبة»، والأمانة السعودية لمجموعة العشرين، ضمن برنامج المؤتمرات الدولية المقامة على هامش عام رئاسة المملكة للمجموعة.
وتأتي الشراكة بين أرامكو السعودية ومؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع لتدعم الجهود بعيدة المدى لبناء المواهب، وتنمية العقول، وتطوير رواد وعلماء ومبتكرين لمستقبل الشركة وبيئة الأعمال في المملكة.
وفي إطار التزامها بالإسهام في تحقيق الابتكار، تعمل الشركة على إنشاء مركز الابتكارات المتقدمة (LAB7)، وهو مركز أفكار عالمي الطراز، يجمع الموظفين وأفراد المجتمع في بيئة تعاونية وإبداعية، ويعمِّم ثقافة الابتكار خارج أسوار الشركة، كما يُعدُّ بيئة حاضنة ومحفزة لتحويل الأفكار إلى منتجات تجارية تساند أهداف أرامكو السعودية الإستراتيجية والمجتمعية.