عندما كنت طفلًا، كنت ألاحظ وأراقب والدي يوميًا، كنت أحاول أن أعرف ماهي هواياته واهتماماته. كانت الإجابات كلها تدور حول كلمة واحدة هي الأُسرة، فهو لم يكن مشغولًا إلا بالعمل والاجتهاد لتوفير الحياة الكريمة لنا، ومتابعة تقدمنا في مراحل التعليم المختلفة، والاهتمام بشؤوننا المختلفة، لكن ظل السؤال يؤرقني، ما هي الهوايات التي يحب أن يقوم بها، وما هي اهتماماته خارج هذه المسؤوليات الأسرية. نفس السؤال كان يلح عليّ كلما وجدت والدتي منهمكة في أعمال المنزل، لكني لم أجد إجابات.
أؤمن دومًا بأنه إذا كانت الأمومة غريزة فإن الأبوة مشروع، فليس سهلًا أبدًا أن تكون أبًا. تولد البنات أمهات بالفطرة لكن الرجل لا يولد أبًا، بل يحتاج إلى جهد كبير وخطوات طويلة يقطعها لكي يصل إلى نهاية هذا الطريق الطويل.
تحتاج في البداية إلى أن تؤمن بالإيثار والعطاء غير المحدود وأن تتنازل طواعية عن راحتك الشخصية وحياتك قبل الزواج، تقبل بأن تتحول من شخص يتحرك بكل حرية ويتخذ قراراته وفقًا لحساباته هو فقط، لشخص آخر يضع في حسبانه أفراد أسرته عند اتخاذ أي قرار ويدرسه جيدًا لكي لا يؤثر على مستقبلهم وحياتهم. باختصار يتحول الرجل هنا من فرد إلى قائد.
مع مرور الوقت، كبرت وتزوجت وأصبحت أبًا، وجدت نفسي تلقائيًا أتحول إلى نسخة أخرى من والدي في اهتماماته بأسرته وعمله. ذات يوم سألني طفلي ذو التسع سنوات: «أنت ما تلعب بلايستيشن ولا تشاهد رسوم متحركة. وش تحب تسوي؟». في لحظة عاد شريط الذكريات حتى عدت لأيام الطفولة وتذكرت نفس تساؤلاتي عن هوايات والدي. وبدأت تتضح لي الصورة من منظور مختلف، وعرفت الإجابة فورًا، وقلت لولدي: أنتم هواياتي، أفرح لفرحكم وأسعد لسعادتكم، أعمل ليل نهار لكي تنعموا بالراحة، وعندما أتقدم في العمر سأكون مثل جدك، حيث تجتمعون دومًا عندي للسلام والحديث والتسامر. وسأظل دائمًا أتذكر ابتسامات وترحيب والدي عندما يحضر أحد أبنائه أو بناته لمنزله.
العجيب أن والدي كانت لديه بالفعل هوايات عديدة، منها السفر والتجوال وإقتناء الإبل والخيل، لكنه لم يسافر إلا في مهام العمل، ولم يقتنِ لا خيلًا ولا إبلًا، بل كان يخشى من أن تبعده هذه الهوايات عن أُسرته وعن مهامه تجاههم، فهذا هو الإيثار الحقيقي.
كل ما قلته عن والدي يمكنني أن أكتب مثله وأكثر عن والدتي، ولا أزيد على ما قاله أحد الحكماء عندما سُئل عن الإيثار فأجاب: «راقب تصرفات أمك و ستعرف الإجابة».
باختصار، فإن الحياة رحلة جميلة أبطالها الوالدان، يؤثرون على أنفسهم، ويكرسون حياتهم لأبنائهم وبناتهم، ويوفرون لهم كل سبل النجاح والصلاح.
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال مايطرح فيها من أفكارمتنوعة تعّبر عن آراء كّتابها.