صراعات النفس وهواجس المستقبل..
معركة الروايات الواعدة للفوز بـ(جائزة البوكر)
إذا كنت تبحث عن نشوة الفرح أو سكرة الأحلام، التي ربما جادَ بها الأدب على جلسائه، فإنك حتمًا لن تجدها بين دفتي القائمة القصيرة للروايات المرشَّحة لجائزة البوكر لعام 2020م؛ لكن ما قد تجده هناك هو العزاء والسلوى، اللذان تمسح بهما قِصص الصراع الإنساني على الأرواح، لتطمئنَّ إلى أنها لا تُحلِّق وحيدة في فضاء معركة الحياة، كما أنك قد تجد فيها مُتسعًا من الحبِّ الصادق، الذي تختنق به الحروف، وتتسعُّ به القلوب الخافقة بالنبض.
وسواءً أكان العزاء أم الحب هو ما تنشده، فلعلك تنضمُّ إلى حشد من جماهير الأدب الإنجليزي والعالمي، التي تتطلَّع إلى الإعلان عن الفائز بالجائزة، المقرَّر لها أن تكشف النقاب عن روايتها المتوَّجة في أيام معدودات، وذلك في 19 من شهر نوفمبر.
ومن دون كثير تعمُّق في التفاصيل، تُخبرنا نظرةٌ خاطفةٌ على القائمة القصيرة أن الروايات الست المُختارة توزَّعت بين أربع كاتبات وكاتبين اثنين، وهو أمر يتكرَّر للمرة الثانية على التوالي؛ كما أن أربعًا منها هي لكتاب من ذوي البشرة السمراء.
وبشيء من النظر في ذلك، يمكن القول إنها إشارةٌ غير خافية إلى أن الأدب لا يستطيع أن يبني جُدرانه ليعيش في عُزلة عمَّا يجري حوله، أو أنها ربما تكون خطوة أخرى تقطعها الجائزة في المسار الذي ارتضته لنفسها مؤخرًا، والذي تطمح من خلاله إلى النأي بالأدب عن الحواجز، وتنزيهه عن التحيُّز إلى أي شيء سوى الأدب نفسه!
وإذا كان سؤال الفائز سيلقى جوابًا له في غضون أيام قصيرة، فإن السؤال الأصعب سيبقى رهن الزمن، الذي سيكشف لنا إن كانت أي من هذه الروايات ستنجح في الارتقاء إلى مصاف الأعمال الخالدة. وقبل أن تخطف الرواية الفائزة الأضواء، نستطلع في عُجالة هذه السطور الروايات الست، التي نجحت في الوصول إلى القائمة القصيرة للجائزة؛ لا من باب أن الجوائز والألقاب والقوائم هي معيار الأدب الحقيقي أو منتهى آماله، بل لأنها شُرفةٌ صقيلة المرايا ننفذ منها إلى عالمه الأوسع.
صراعات النفس.. وعذابات الماضي
في روايته، (الحياة الحقيقية)، يحكي براندون تايلور قصة والس، الرجل الأمريكي الأسود، الذي يخطف الموت أباه، لكنه يتغيَّب عن حضور مراسم الجنازة، بينما هو منغمسٌ في حياة مغرقة في العزلة، وشاسعة البُعد عن عالم طفولته المتعثِّرة، لا سيَّما وهو يكافح لإنهاء السنة الرابعة في تخصُّص الكيمياء الحيوية.
وفي غضون فترة وجيزة، تؤدِّي سلسلة من الأحداث بوالس إلى الدخول في دوَّامة من الصراعات. ومن خلال توالي الأحداث، يحاول الكاتب أن يستجلي معاني الحياة بين متاهات العصر الحديث، ويطرح أسئلة حول الصراع الإنساني في غور أعماق النفس: فبأي كُلفة يمكن للمرء أن يتخطَّى جراحات الماضي؟ وأين المهرب من المظاهر الخدَّاعة والغربة الحقيقية؟ وأين الموقف بين الرغبة والألم؟
إنها أسئلة يُعالجها الكاتب، تارة بنظرة بعيدة تستطلع الصورة الكُبرى، وأخرى بعدسة مكبِّرة لا تفوتها التفاصيل، تاركًا الإجابة الحاسمة للقارئ الحصيف.
الأمومة عبئًا ثقيلًا
صراع النفس هو أيضًا مخاض الحديث في رواية (سكَّرٌ مُحترق) للكاتبة آفني دوشي، لكن هذه المرة في عالم مختلف. الرواية تحكي قصَّة تارا، التوَّاقة إلى حياة مختلفة، فرَّطت من أجلها بزواجها البائس وابنتها الوحيدة، لتلتحق بصومعة، ثمَّ تخوض حياة الشحَّاذين، كما تُمضي شطرًا من عمرها وهي تطارد شخصًا مُشرَّدًا.
تحترق الأعوام، وتُصبح تارا حبيسة الزهايمر، وتغدو ابنتها التي كبُرت أمام مهمة الاعتناء بأمٍ لم ترعها في صغرها. إنها قصة الحب والخيانة بين الأم وطفلتها، فهل تُصبح الحقوق مجرَّد حبر على ورق؟ وهل يطغى الحب أم تستأثر الأنانية مرَّة أخرى؟
تستكشف آفني في روايتها، التي تتخذ من الهند مسرحًا لأحداثها، مفهوم العلاقات الإنسانية المعاصرة، وإمكانية أن تتحوَّل الصلات القريبة، حتى تلك التي بين أمٍّ وابنتها، إلى مجرَّد عبء ثقيل يخنق العقل بذكريات متقلِّبة.
التمسُّك بأهداب الأمل
الأسرة المنهارة هي محور الأحداث أيضًا في رواية (شاقي بين)، لدوغلاس ستيوارت، لكن هذه المرة هي الأم مع أطفالها الثلاثة، وقد ألقى الموت والفقر أثقالهما في فناء مدينة غلاسكو الإسكتلندية، إبان تسعينيات القرن الماضي.
وحينما تؤول الآمال إلى الخيبة، تجد الأم نفسها تنوء بأثقال الحياة، فتلجأ إلى الإدمان للهرب من واقعها الأليم، ويُضطر الأطفال إلى إنقاذ أنفسهم وأمهم من غيابة العيش المرير. لكن مشاغل الحياة تأخذ اثنين من الأبناء بعيدًا عن أمهما، ليبقى (شاقي بين) يصارع وحيدًا أمام إدمان أمه، وكذلك مع مشكلاته الشخصية في الانسجام مع المحيط الخارجي الذي ينظر إليه بعين الاحتقار.
إنه الأمل، إذن، والحبُّ الصادق الذي لا يتسرَّب إليه الشك، في خضَّم صراع عتيد مع معضلات الدهر القاهرة، والضعف الإنساني إزاءها، فهل يُصلح الحبُّ ما أفسد الدهر؟
النجاةُ من تغيُّر المناخ
مخاوف المستقبل في أجلى صورها هي موضوع رواية (البرية الجديدة) للكاتبة دياني كوك. هي الأخرى، تختار دياني الأم كشخصية رئيسة ضمن الرواية، لكن هذه المرة وهي تحاول إنقاذ طفلتها من عالم منكوب بتغيُّر المناخ؛ فالتلوُّث الخانق يعتصر روح آغنيس، ذات الأعوام الخمسة، في المدينة الحديثة.
مدفوعة برغبتها في إنقاذ ابنتها، تقرِّر الأم أن تهيم على وجهها في البرية، حيث تلتحق بمجموعة من المتطوِّعين، ضمن دراسة علمية لعيش حياة بدائية في أرض تعجُّ بالأخطار.
إنها إذن معضلة المستقبل، تُطلُّ برأسها فيما يُشبه أدب (الديستوبيا)، حيث أخطارها تقترب إلى حيث يمكنها التربُّص بأعزِّ الناس، والحلُّ المُتاح هو الهرب إلى البدايات الأولى، ليكتشف الإنسان نفسَه من جديد في معركة البقاء للأقوى.
آمال المستقبل.. وعقبات الواقع
هواجس الإنسان هي أيضًا منطلق الحديث في (هذا الكائن يُرثى له)، رواية الكاتبة تسيتسي دانغاريمبغا، التي أغرقت سطورها بالتأملات النفسية العميقة والمتشابكة. والهاجس هنا هو صنع غدٍ مشرق، حيث تتوالى العقبات أمام تحقيق ذلك المستقبل، الذي لطالما رسمته الأحلام، على أرض الواقع.
تامبودزاي، فتاةٌ في مقتبل العمر، تهبُّ إلى البحث عن فرص العمل في هراري، عاصمة زيمبابوي، للهرب من حياة متواضعة؛ لكنها ترى آمالها تضجُّ من الألم تحت وطأة الإهانات المتتالية، فهل ثمَّ ضوءٌ آخر النفق؟ أم أن مصيرها المحتوم هو أن تكون كائنًا يُرثى لحاله؟
امرأةٌ في قلب المعركة
حضورٌ آخر لأفريقيا في رواية (ملك الظل)، للكاتبة معزا مينغيستي، التي تحكي لنا قصة هيروت، اليتيمة التي تسوقها الأيام لأن تعمل خادمة في بيت أحد المسؤولين العسكريين، إبان فترة الاستعداد لمقاومة الجيش الإيطالي قبيل الحرب العالمية الثانية.
وسرعان ما تتقمَّص هيروت أدوار البطولة، فتقود خطة إنقاذ للمعنويات الموشكة على الانهيار، في أعقاب غياب إمبراطور إثيوبيا في المنفى؛ حيث تجهِّز أحدهم ليتقمَّص دوره، وتنضمُّ إلى حرس الحماية، وتشجِّع نساء آخرين على الالتحاق بالجيش، لكن المطاف ينتهي بها في سجون إيطاليا.
من خلال هيروت، تُرينا الكاتبة المرأة وهي تأخذ دور البطولة، لا ضمن الأدوار المألوفة، بل في قلب معركة ضارية يخوضها الوطن، وأخرى مثلها تُصارعها النفس.