الأحساء - وأخيرًا، حطَّت موسوعة غينيس للأرقام القياسية رحالها في واحة الأحساء، حيث أعلنت عن تتويجها كأكبر واحة في العالم. ولا يأتي هذا الإعلان الأخير كأمر مفاجئ، وإنما هو خطوةٌ أخرى في سياق النشاط الذي تشهده المملكة، بقيادة وزارة السياحة السعودية، في مجال التعريف بما تكتنزه جنباتها من تراث وثقافة غنية ومعالم أثرية وسياحية متنوِّعة، تضرب بجذورها في أعماق الإنسانية بتاريخها وحضارتها، وذلك بهدف اجتذاب السيَّاح من شتى أقطار العالم إليها.
وضمن هذا السياق، شهد العقدان الأخيران إدراج عدد من المواقع الوطنية ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، التي ترعاها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو)، بدءًا من مدائن صالح في العُلا، ومرورًا بحي الطريف في الدرعية التاريخية، ثمَّ منطقة جدة القديمة، وجبَّة والشويمس في منطقة حائل، وأخيرًا، واحة الأحساء التي أُدرجت ضمن القائمة في شهر يونيو من عام 2018م.
كما سجَّلت موسوعة غينيس في وقت سابق من هذا العام مسرح (مرايا العُلا) كأكبر مبنى مُغطًّى بالمرايا في العالم، ليلحق بعدد من الأرقام الوطنية الأخرى.
"ثمَّ سافرنا إلى مدينة هَجَر، وتُسمَّى الآن بالحَسَا، وهي التي يُضرب المثل بها فيُقال: كجالب التمر إلى هجر، وبها من النخيل ما ليس ببلد سواها" ابن بطوطة 703 – 799 هـ
جنَّةُ السعفات
وجاء دخول الأحساء لموسوعة غينيس بوصفها أكبر واحة قائمة بذاتها في العالم، حيث تضمُّ ما يربو على 2.5 مليون نخلة، تمتدُّ على مساحات شاسعة تتجاوز 85.4 كيلومترًا مربعًا، حيث تُسقى هذه المساحات بماء معين تُفيضه عديد من العيون والآبار الارتوازية هناك. وتتوزَّع هذه المساحات بشكل رئيس في القرى الشمالية والشرقية من الأحساء، إلى جانب مدينتي المبرز والهفوف، كما تتكاثر أيضًا في العيون إلى شمال الأحساء.
وتجود واحة النخيل الكُبرى بمختلف أصناف الرطب الجنيّ والتمر الشهيّ، وتمتاز بجودتها المميَّزة وقيمتها الغذائية العالية، وعلى رأسها الخلاص والرزيز والشيشي والبرحي والهلالي وأم رحيم، وغيرها. وفي الفترة الأخيرة، نشطت صناعة التمر في الأحساء، التي تعتمد على هذه المحاصيل لصنع المُنتجات الغذائية المختلفة، بما فيها الدبس، والتمر المحشوُّ بالجوز واللوز، والمعمول وشوكولاتة التمر، حيث تُسوَّق هذه المُنتجات بشكل محدود خارج المنطقة.
كما يُستفاد من مكونات النخلة الأخرى في كثير من الاستعمالات المحلية، فتُستخدم الجذوع والسعفات في العمارة التقليدية، حيث تُسقف بها المباني الطينية وتُزيَّن بها المجالس التقليدية، كما تدخل في صناعة الحرف اليدوية، فتُصنع المراوح اليدوية والسلال والأوعية من الخوص الأخضر واليابس. أما الكَرَب، وهو طرف السعف الذي يربطه بالنخلة، فيُعدُّ وقودًا جيدًا يُستفاد منه في إعداد وجبة (المندي) بنكهتها المحلية.
النخلُ والإنسان
وتمثِّل النخلة في الأحساء أكثر من مجرَّد شجرة تنمو على قارعة الطريق، بل إنها تعكس بُعدًا زاخرًا يتجلَّى في مختلف جوانب الحضارة المُرتبطة بالمنطقة، التي يعود أقدم استقرار بشري فيها إلى الألفية الخامسة قبل الميلاد؛ فإلى جانب الزراعة والعمارة والحرف اليدوية، تجد النخلة نفسها أنشودة الشعر والأدب، اللذين ما انفكَّا يتقمَّصانها رمزًا للخير والسلام، وطبيعة الإنسان (الحساوي) على امتداد العصور.
وإلى جانب النخيل، تحظى الأحساء بأهمية بالغة لصناعة النفط والغاز، حيث تشتمل على أكبر حقل للنفط في العالم، وهو حقل الغوار، كما تضمُّ بين جوانحها عددًا من المعالم الأثرية والسياحية الشهيرة، ومن بينها جبل القارة، ومسجد (جواثا) التاريخي، وسوق القيصرية، وقصر إبراهيم، وكذلك بُحيرة الأصفر، وميناء العقير. وفي كثير من هذه المعالم، يلتفُّ النخل كستار يحتضن مسرح الحدث، ويضيف برونق خُضرته الساحرة جوًّا بديعًا هو أشبه بالبصمة المميِّزة للمكان.
ويضاعف اقتحام الأحساء لموسوعة غينيس من المسؤولية المُلقاة على عاتق أهلها والجهات المعنيَّة، في المحافظة على طبيعة المكان وحماية البيئة أمام عددٍ من التحدِّيات الجسيمة، التي قد تُسهم في تراجع النخلة عن صدارة المشهد؛ ولعلَّ من بينها نضوب عدد من الموارد المائية، وميل مُلَّاك المزارع إلى إنشاء المباني على حساب المساحات الزراعية، سواءً للسُكنى أو للاستثمار السياحي، بالإضافة إلى تقلُّص عدد الفلاحين المحليين نظرًا لتراجع العائد الاقتصادي لهذه المهنة.