فِلم «المعضلة الاجتماعية» يضعنا وجهًا لوجهٍ أمام الحقيقة المرة
كيف تهيمن وسائل التواصل الاجتماعي على حياة مستخدميها؟
إذا كنت قد ضغطت على زر «لايك» مؤخرًا لإبداء الإعجاب بصورة نشرها أحد أصدقائك على الفيسبوك، أو تأملت بشكل مطوّل صورة منتج في تويتر أو إنستغرام، فأنت في الواقع قدّمت معلومات لتلك المواقع عن شخصيتك، ستساعدها على لفت انتباهك في المرات القادمة لتبقى وقتًا أطول متصفحًا تلك المواقع، لتبقى حبيسًا بين جدرانها اللامرئية، ومن ثَمَّ تمنحها فرصة السيطرة على حياتك شيئًا فشيئًا من حيث لا تحتسب.
وإذا كانت هذه الفكرة تبدو مفزعة أو مبالغًا فيها بشكل كبير، فالفلم الوثائقي الدرامي الجديد «المعضلة الاجتماعية»، المتوفر على موقع نتفلكس، والجدير بالمشاهدة، يكشف لنا عن الباعث من ورائها؛ إذ يمزج الأسلوب الدرامي بالوثائقي ويستعرض تأثير شبكات التواصل الاجتماعي الخطير، في محاولة للفت نظر خبراء التقنية بمخاطر اختراعاتهم، مع منح المشاهد، في الوقت نفسه، نظرة لواقع وسياسة مواقع التواصل الاجتماعي ومحركات البحث، وما يحدث من سيطرة على حياة الناس وتغيير لإدراك المرء للعالم الواقعي.
يفتتح الفلم باقتباس لسوفوكليس، أحد أشهر كتاب المأساة الإغريقية، يقول فيه:
«لا يدخل شيء ضخم حياة البشر من دون لعنة».
وكما هو واضح فإن وسائل التواصل الاجتماعي تُعد من أضخم الأشياء التي طرأت في حياة البشر في الوقت الراهن. وماهية تلك اللعنة أو المشكلة التي أتت معها هي سؤال الفلم الجوهري الذي طرحه المخرج على عديد من التنفيذيين والموظفين والمؤسسين السابقين لعدد من منصات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث مثل فيسبوك وغوغل وتويتر وغيرها.
يقول تريستان هاريس، المدير السابق لأخلاقيات التصميم في غوغل، وأحد أهم الشخصيات التي ظهرت في الفلم: «وسائل التواصل الاجتماعي ليست موجودة كأداة لاستعمالها، فهي تغريك وتتلاعب بك وتريد شيئًا منك. لقد انتقلنا من مرحلة كونها بيئة قائمة على تقنية الأداة لتكون بيئة قائمة على تقنية الإدمان والتلاعب. ولدى وسائل التواصل الاجتماعي أهدافها وخططها لتحقيق تلك الأهداف، ومن بين ذلك أنها تعمل باستخدام حالتك النفسية ضدك».
ويتحدث روجر مكنامي، رجل الأعمال وأحد أوائل المستثمرين في فيسبوك عن التحول الكبير الذي حدث في السنوات العشر الأخيرة في وادي السليكون، فيقول: «خلال أول خمسين عامًا في وادي السليكون كانت تُصنع منتجات وأجهزة كمبيوتر وبرامج وتباع إلى الزبائن، ولكن في آخر عشر سنوات بدأت تعمل أكبر الشركات في مجال بيع مستخدميها».
وتستغل أغلب منصات التواصل الاجتماعي الاعتقاد السائد أنها مواقع مجانية، ولكن نموذج العمل القائمة عليه هو إبقاء الناس على مواقعها أطول فترة ممكنة معتقدين أنها مواقع مجانية. ومن أجل ذلك هناك تنافس محموم بين تلك المنصات على وقت المستخدم وانتباهه وحياته. فكلما استطاع موقع لفت انتباه المستخدم وقتًا أطول، كلما جنى أموالًا أكثر عن طريق الإعلانات التي تستهدف اهتمامات المستخدم وشخصيته.
ويؤكد ذلك جستن روزنيستاين، وهو مهندس سابق في كلٍ من فيسبوك وغوغل:
«ثمة الكثير من الخدمات على الإنترنت التي نظنها مجانية، ولكنها ليست كذلك. وحقيقة الأمر هي أننا نحن المُنْتَج، اهتمامنا هو المُنْتَج الذي يُباع للمعلنين».
ومن جهة أخرى، يعلق الكاتب جارن لانير، مؤلف كتاب (عشر حُجج لحذف حساباتك في وسائل التواصل الاجتماعي الآن): «إن التغيير البسيط وغير المحسوس في سلوككم وإدراككم هو المُنْتَج. لا شيء آخر مما هو معروض يمكن أن يُسمّى مُنتجًا. ذلك الشيء الوحيد الذي يمكن أن يجنوا الأموال منه، إنه تغيير ما تفعلونه وطريقة تفكيركم وطبيعتكم».
ويستمر الفلم في كشف سياسات شركات التقنية ومدى تقدم أنظمتها التي تراقب تحركات مستخدمي شبكات التواصل، حيث يقول جيف سيبىرت، وهو رئيس تنفيذي سابق في تويتر: «ما أريد أن يعرفه الناس هو أن كل ما يقومون به على الإنترنت يُراقب ويُتعقب ويُقاس. كل إجراء تتخذونه يُراقب ويُسجل بدقة، مثل الصور التي تقفون وتنظرون إليها ومدة رؤيتكم لها».
كما يكشف سندي باراكليس، مدير العمليات السابق في فيسبوك، كيف تعمل تلك الأنظمة، حيث يقول:
«كل تلك المعلومات التي نقدمها لتلك المواقع تُغذى في أنظمة يكاد لا يوجد عليها إشراف بشري لتقوم بإعطاء توقعات عما سنفعله وعن طبيعتنا»
. ومن كل تلك المعلومات والتحليلات يمكن معرفة متى يكون المستخدم مكتئبًا أو يشعر بالوحدة وكل شيء تقريبًا، ثم بالتالي يتم بناء نماذج تتوقع أفعالنا، ومن يملك نموذجًا أفضل يفوز.
ويستمر الفلم في إيضاح خفايا برمجة مواقع البحث وأهدافها لتغيير إدراكنا للواقع والحقيقة وتزويدنا بمعلومات موجهة لتحقيق أهدافها مما يشكّل خطرًا حقيقيًا على حياتنا. كما أثبتت الدراسات زيادة كبيرة في معدلات الاكتئاب والقلق بين المراهقين. وهذا ما يصوره الفلم في الجانب الدرامي منه حيث يستعرض قصة لمعاناة أفراد أسرة مع وسائل التواصل الاجتماعي. لذلك يبرر مخرج الفلم جيف اورلاوسكي، الذي أخرج فلمين سابقين عن البيئة، انصرافه عن قضايا البيئة إلى إخراج وثائقي عن شركات التقنية قائلًا: «قضايا البيئة والتغير المناخي تُعد أزمة وجودية ومنذ سنوات بدأتُ بالتعرف على ما تقوم به هذا المنصات الاجتماعية من تغيير في مجتمعاتنا وحضارتنا تحت مرأى منا، وحينها شعرت بحجم هذه المشكلة التي تُعد أزمة وجودية».